لقاء الملك بترامب.. وعودة الى التاريخ

بهاء الدين صوالحة
جو 24 :
لا أعرف كيف استدعت الذاكرة وأنا أتابع ردود الأفعال التي رافقت لقاء القمة بين الملك عبدالله الثاني والرئيس الأمريكي ترامب، حادثة الخطاب الغاضب الشهير الذي وجهه الملك الراحل الحسين بن طلال رحمه الله، في أعقاب المجزرة المروّعة التي ارتكبتها المقاتلات الأمريكية بقصفها ملجأ العامرية في 13 شباط من عام 1991م، وأدّت إلى مقتل أكثر من 400 (تخيّل 400 وليس 48 ألفاً) مدني عراقي من النساء والأطفال.
خطاب الحسين في حينه، بلغ من حدّته وغضبه أن يهرع القائم بالأعمال الأمريكية في عمّان في حينه صباح اليوم التالي نحو الديوان الملكي قبل بزوغ الشمس، مستشيطاً غضباً ومحمّلاً باستياء إدارته تجاه ما حفل به الخطاب من لغة غير معهودة على الملك وتحديداً فيما يخص علاقة التحالف الاستراتيجية العتيقة التي تجمع البلدين.
ويصف رئيس الديوان الملكي في حينه عدنان أبو عوده رحمه الله، الذي استقبل الدبلوماسي الأمريكي حالة الغضب الذي كانت تتملّك ضيفه الذي (أزبد وأرعد) كثيراً فيما أبو عوده ظلّ صامتاً إلى حين، حتى خاطب ضيفه: هل انتهيت؟ حينها قال له: في بعض الأزمات يتوجب على القيادة أن تسبق الجماهير بخطوة في ردة أفعالها لاحتواء غضبها، ولو لم يخرج الحسين بهذا الخطاب بهذه اللغة، لاحتلّت الجماهير الأردنية السفارة الأمريكية ..
بهذا الردّ الذي لم يكن معدّاً سلفاً، تمكّن السياسي المحنّك أبو عوده احتواء غضب الأمريكيين تجاه الإساءة التي استشعروها من خطاب الحسين، والذي كان من الممكن أن يتسبب في تعقيد العلاقة المتوترة أصلاً بين الطرفين في حينه جرّاء العدوان الأمريكي على العراق.
استدعاء هذه الحادثة مردّه إلى حرفة "إدارة سيكولوجيا الجماهير" ليس كما يصفها الفيلسوف غوستاف لوبون في نظريته الشهيرة، بل كما أسست لها مدرسة الحكم الهاشمية، بمرونتها وحكمتها ودبلوماسيتها وقدرتها الفائقة في ضبط معادلة التوازنات بدقة متناهية بين المصالح الوطنية من ناحية والتزامات العلاقات الدولية من ناحية أخرى، وبما لا يعكّر في المقام الأول صفو العقد الاجتماعي مع الأردنيين والمشهود له بالصلابة.
وإذا ما فهمنا تلك الفلسفة لقواعد وأصول الحكم الهاشمي، فسنستطيع ببساطة شديدة تفسير حملة التأييد والمؤازرة التي قابل بها الأردنيون مليكهم بعد عودته من القمة مع ترامب والتي بدون شك كانت استثنائية بكل المقاييس، وثقيلة على الملك كما استشعرها كل المتابعين، لكنها حتماً كانت من الضرورة لشرح موقف الأردن الرافض لخطة سيد البيت الأبيض لمستقبل غزّة، وقد كان ذلك.
لكن المشكلة لم تكن بالأردنيين، الذين لا شك لديهم بموقف بلادهم الصلب تجاه مخططات التهجير، المشكلة كانت ممنهجة من فئات معروفة بمواقفها المسبقة والمشككة دوماً بالأردن وقيادته وأرادت قراءة مشهد المؤتمر الصحفي وتصريحات الملك على طريقتها واعتماداً على نسختها الخاصة بالترجمة. فخرج هؤلاء وملأوا الفضاء بتأويلاتهم وتفسيراتهم وعاثوا بالأذهان والعقول إفكاً وفساداً ..
وبعيداً عن المباغتة التي تعرض لها الملك من قبل ترامب في عقد المؤتمر الصحفي دون ترتيب مسبق، فقد كان المُنتظر – من وجهة نظر هؤلاء – أن يقف الملك في قلب البيت الأبيض ويعلن الجهاد المقدّس من على منبره ويشهر سيفه في وجه ترامب فيضرب عنقه! – لا أنكر أن هذه الرغبة واتتني، لكن سرعان ما تحررت منها بالعودة إلى ميدان سياسة الواقع.
بلا شك أن اللقاء أثار غضبي كما غضب الأردنيين، لكن لم يكن ذلك من حديث وتصريحات الملك التي كانت وافية بالتمام والكمال وتوّجها بجملة واحدة أوجزت الموقف الأردني "سأعمل ما فيه مصلحة بلادي"، لكن مصدر الغضب يعود إلى الهوة الواسعة من رأسي اللقاء، وحالة عدم التكافؤ بين من تحرّكه الحكمة ومن تدفع به أهوائه، بين من يرشده العقل ومن يضلّه جنونه، مفارقة مجحفة لم يكن بالإمكان تجاهلها، ومقارعة غير منصفة غالبا الغلبة فيها للجاهل على حساب العاقل كما يقول الإمام الشافعي.
فصحيح أن ترامب زعيم أكبر دولة في العالم، لكنه في المحصّلة مجرّد مقاول ورجل عصابات قذفت به لعبة الديمقراطية التي تفرض قواعدها الكثير من الحمقى الذين ينقلون عوالق عوالمهم إلى سدة الحكم. لكن بالمقابل فالملك رغم أنه زعيم لدولة صغيرة الحجم والموارد لكنه في أول الأمر ونهايته رجل دولة ووريث سلالة خبرت الحكم وأعرافه وأخلاقياته التي تحكم سلوكياته وردود أفعاله وتصريحاته، وحتى في هيئته وطريقة جلسته التي لا يتخلّى فيها عن إتيكيت الجلسات الدبلوماسية الرصينة الهادئة والمتواضعة والبعيدة كل البعد عن الاستعلاء والتقليل من احترام الحضور سواء كان ضيفاً أم مضيفاً، وهنا تكمن المفارقة بين طرفي اللقاء.
وبالعودة إلى التاريخ قليلاً، فلم يكن الراحل الحسين على سبيل المثال بعاجز عن مقابلة اسطوانات الردح ومسلسلات الشتائم التي كان يشنّها عليه الرئيس عبدالناصر وأدواته الإعلامية والتي بلغت من مستواها النيل من الأعراض والمحارم، بشتائم مماثلة وأن يفتح أثير إذاعته لترد الصاع صاعين .. لكنه على العكس ظلّ مترفعاً عن الانجرار وراء تلك اللغة الغرائزية التي يطرب لها ويصفق لها الرعاع، فكانت النتيجة أن اكتسب الحسين احترام العالم أجمع خصومه ومعارضيه قبل مريديه ومؤيديه.
كأردني؛ قد تختلف مع سياسات مؤسسة الحكم وتكتيكاتها وتفاصيلها بعض الوقت، قد تعارض منهجها في الأثناء، لكنك لا تملك إلا أن تحترم فلسفتها طيلة الوقت وتدرك أبعادها وتقابلها بحُسن النوايا حتى وإن لم ترق لك.
الملك عبدالله لم يدّع يوماً بأنه ثائراً أو زعيماً لمليشيا أحادية الرؤية، أولويتها تنصبّ في الضغط على الزناد، بل هو ملك لدولة ومسؤول عن رعّية، خطواته محسوبه، ويمتلك في رأسه ألف عين وعين، ترصد، تحلل، توفّق ثم يأخذ القرار بعقل بارد خالٍ من الأهواء بما يعتقد بأنه الأفضل كما قال لمصلحة بلده. المسؤولية هي من تحرّكه قبل الرغبات، والمصلحة العليا أولويته قبل الشعبويات .. لماذا؟ لأنه يدرك أنه "مسؤول"!