وأخيراً ؛ تحدّث المتحدّث!

بهاء الدين صوالحة
جو 24 :
أطلّ بعد طول غياب، خرج من "خلوته"، وقرّر أن يخترق حاجز الصمت ليقول "أنني هنا" وما زالت شارتي في يدي، وإليكم يا قوم "كتابيَ".
لم يكن اللقاء التلفزيوني لمعالي وزير التواصل الحكومي والمتحدّث الرسمي للحكومة الشخصية الدمثة والودودة، اعتياداً، بل معدّاً وموجهاً، بعد موجات من الانتقادات عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي استهجنت حالة السكون والغياب "وربما التغييب" التي أصابت معاليه في ذروة العاصفة التي يتعرّض لها الأردن وتحديداً فيما يخص الجدل الذي أثاره لقاء الملك مع ترامب، والذي فرض بطبيعة الحال إعلان "الحرب الإعلامية والنفسية" على الأبواق المأجورة التي حاولت النيل من الأردن وقيادته، وتشويه اللقاء شكلاً ومضموناً.
اللقاء التلفزيوني مع معاليه استمر لأكثر من 24 دقيقة، ولم يأتِ بأي جديد، بل كرر خلاله عبارات الرفض لمشروع التهجير، حتى الدقيقة الأخيرة التي اختزلت هدف اللقاء ورسالته الأساسية. فيرد معاليه على سؤال: "ليش انت ما حكيت من أول؟" فيقول:"تم التعامل مع الأمر ما يستحق. طيّب لما سيدنا بحكي، ورئيس الوزراء بحكي، ووزير الخارجية بحكي، ورئيس مجلس الأعيان بحكي،ورئيس مجلس النواب بحكي فهذا تعبير عن موقف الدولة حتى لو لم يتحدث المتحدث الرسمي، ما إحنا كلنا دولة وحده!!" ليتمخّض عن هذا المنطوق سؤال أهم: إذا كان هؤلاء كفّوا ووفّوا معاليك، فما الحاجة إذن لمنصبك؟!.
لست هنا في وارد تحليل أو لوم معالي الوزير على حديثه أو تفنيد تبريراته، بل على العكس تماماً، فأنا أرى أنه رغم عدم الاتفاق مع ما ذكر في حديثه، إلا أنّ "غيابه" في واقع الأمر نتيجة طبيعية للعبة "تفريغ" المناصب من محتواها (رئيس الوزراء صاحب الولاية العامة كان في الأثناء يعلن عن إنشاء حديقة في المفرق) فمن هو على مقربة من الوسط الإعلامي والصحفي في الأردن ومن مراكز صنع الظهور الإعلامي للدولة، يعرف تماماً كيف تعدّ الأمور، وكيف تُمنح الصلاحية لمن ينطق ومن لا ينطق وكيف ينطق خاصة إذا ما تعلّق الأمر بشأن سياسي أو أزمة حساسة، وأكثر من ذلك فإنني شخصياً أتطلع إلى جواب المتحدّث الرسمي بأّنه أقرب إلى "شكوى الحال" أكثر من كونه جواباً يفتقد للحد الأدنى من عناصر "الإقناع" حتى بالنسبة للوزير نفسه، الذي يُفترض أنه المعبّر الأول في الدولة عن رأيها وتوجهها وقراراتها وسياساتها، ولا يزاحمه في مسؤوليته تلك أحد. فباستثناء الملك ووزير الخارجية فإن رئيسي مجلسي الأعيان والنواب لا يمتلكان دستورياً حق التعبير إلا عن رأي مجلسيهما أو الشخصي، وليس عن رأي الدولة المناط حُكماً برأس الدولة، ورئيس الحكومة، والناطق الرسمي باسمها وهو "أنت"!
في منشور سابق لي عبر منصّة x وتعليقاً على لقاء الملك ترامب، قلت: "من إيجابيات الأزمات أنها تكشف العيوب أو جوانب التقصير الخفية" و "من مآزقنا في البلد ضعف المطبخ السياسي والإعلامي، وفريق الملك خلال اجتماعه بترامب مثال حي. فأنا ما زلت مؤمنا بأن الملك يعمل وحيداً".
لقد أثار اللقاء إياه – رغم قساوته - ، حالة نشوة وطنية جَمعية من التآلف والتآزر بين الأردنيين وقيادتهم. لكن بالمقابل، فإذا كانت الأزمات تُظهر أجمل ما في الإنسان من قيم ونوازع، فإنها أيضاً تفرز أسوأ ما فيه لأنه يجد نفسه في مواجهة عدوّه الأكبر "الخوف"؛ الخوف على هويته، مستقبله، قوت يومه، وجوده ... الخ، ما يعني بالضرورة حتمية كبح جماح ما تُحدّث به نفسه الأمّارة بالسوء وهواجس عبر مظلة للإرشاد الوطني والمعنوي مهمّتها الأولى ليس نقل الحقيقة فحسب، بل وتوجيهها لصناعة رأي عام إيجابي خالٍ بالإمكان من الشوائب والترسّبات التي من شأنها حرف مسار المعركة عن سكّتها القويمة، وهنا تكمن مسؤولية "التواصل الحكومي" أولاً!.
وفي هذا السياق؛ فإن المصلحة الوطنية تفرض علينا كذلك ألا نبقى أسيري لحالة النشوة التي حلّقت بنا بعيداً في الآفاق، أو أن تجبّ تلك النشوة "الخطايا" التي تسببت فيما جرى، أو تعتق المسؤول عمّا جرى! نعم؛ آن الأوان للنظر في المرآة والاعتراف بأن ما جرى في لقاء الملك ترامب كان أزمة حقيقية، وصدّر صورة ذهنية مشوهة عبر الشاشات، تلك الفكرة التي يجب مواجهتها بعد صحوة "السَكرة"، وتستوجب أن ننبش بالدفاتر سطراً سطراً ونقذف بالأسئلة التي تراكمت في الأجواف سنوات وكان غيابها القسري سبباً فيما آلت إليه أمورنا اليوم من حال، والتي تدفعنا في أحيان كثيرة لنكون طوعاً أو بالإكراه والتضليل أبطالاً في ملهاة الضحك على الذات!
من السهل أن نلق اللوم على قناة "الجزيرة" لخطئها المتعمّد أو غير المتعمّد للترجمة "الفورية" لحديث الملك، لكن السؤال الأصعب: كيف للإعلام الأردني أن يغيب عن حضور لقاء بهذا الوزن والأهمية محلياً وإقليمياً وعالمياً، لاضطر كمتابع أردني أنا أتعرّف على تصريحات مليكي من قناة "غير أردنية" فأدخل في دوامة الجدل إن كانت هناك مؤامرة أم لا؟! والسؤال الآخر: لماذا يغيب المتحدّث الرسمي باسم حكومة المملكة الأردنية الهاشمية عن فريق الملك في زيارته، حتى لو كان وزير الخارجية حاضراً بصفته (أي المتحدّث) المسؤول الأول عن صياغة سردية موثوقة للرأي الرسمي تكون وجهتها على أقل تقدير "أهل الدار" ؟ وكيف يمكن "مباغتة" الملك بإجراء اللقاء الصحفي دون ترتيب وأين فريق البروتوكول عن هذا؟؟ ولماذا ينوب "نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي" في إدارة معركة ردّ الاعتبار فيما مسؤولو الدولة ينعمون في عوالمهم الافتراضية بانتظار ما ستحمله إلينا حلول السماء؟ ولماذا يستشعر المتابع الافتقاد لخلية أزمة – ولو افتراضية – تقود الماكنة الإعلامية لمواجهة أزمة تهدد كيان وتركيبة ومبادئ وقيم وأمن الدولة وترقى إلى مستوى "إعلان حرب" كما وصفها وزير الخارجية؟!
أسئلة كثيرة وكثيرة تلقي بنفسها على طاولة الوطن اليوم، ومحاولات تجاهلها مرة تلو أخرى تنقلنا لأزمة وراء أزمة أكثر عمقاً وأشد أثراً. أعيدوا لمؤسسات الدولة هيبتها، ردّوا أمانات المسؤولية لأصحابها، كفّوا عن تفريخ الهيئات البديلة والهجينة، فالإعلام الأردني ضحية، والمسؤول الأردني ضحية، والمواطن الأردني ضحية .. وللأردن ربّ ودعاء الأمهات يحميه!