اثنان واربعون عاما على رحيله وما زال بيننا
يبدأ الموت عادة كبيراً، ثم تفعل الأيام فعلها فيه فيصغر، ويلف النسيان من تضمهم الأرض، الا في حالات قليلة مثل حالة وصفي التل؛ فقد بدأ موته فاجعاً وظلّ يكبر كل يوم، وها نحن وبعد مرور اثنين وأربعين عاماً، نحس أنه ما زال بيننا، نشم شذاه في كل بيت أردنيّ، ذلك أن سيرة وصفي امتزجت بسيرة الوطن كله.
وصفي الابن البكر لشاعر الاردن الفذ مصطفى وهبي التل، ولد بعيداً عن بلده وأهله، ولقي حتفه بعيداً عنهما. وفي عام 1917 قصد مصطفى بلدة اسكي شهر في شمال العراق، حيث كان عمه نيازي قائم مقام هناك. وكان نيازي قد تزوج من فتاة كردية من آل بابان، ولم يلبث مصطفى أن تعرف على أختها (منيفة) فتزوجها. ثم عاد مصطفى إلى اربد، وبقيت زوجته عند أهلها، ولم تلبث أن ولدت وصفي عام 1919. عاد وصفي مع جده إلى اربد عام 1924. والتحق بالمدرسة في اربد، وانتقل بعد إنهاء الاعدادية عام 1936 للدراسة في مدرسة السلط الثانوية الوحيدة في شرقي الأردن آنذاك.
اكمل وصفي دراسته في الجامعة الامريكية في بيروت دارسا للعلوم والفلسفة. عمل بعد تخرجه مباشرة في مهنة التعليم، حيث عين مدرساً في مدرسة الكرك، وبعد شهر نقل إلى مدرسة السلط الثانوية.
وعشية الحرب العالمية الثانية لفت نظر وصفي- كما لفت انظار الشباب العربي- انخراط الشباب اليهود مع جيوش الحلفاء، وتشكيل الفيلق اليهودي، وذلك للحصول على التدريب العسكري، لخوض معركتهم مع العرب فيما بعد.
كانت هذه الأفكار التي سيطرت على معلم السلط كافية لتدفعه الى ركوب أول سيارة متجهة الى القدس ليطلب الانضمام إلى إحدى فرق الجيش البريطاني، ليحصل فيها على التدريب العسكري، حيث بقي في الجيش حتى نهاية الحرب.
وبعد الحرب عمل في المكتب العربي في القدس الذي كان أول هيئة تنظيمية لتوعية المواطنين في الداخل وتدريبهم، وكان يرى ضرورة تشكيل الوحدات الضاربة المتحركة التي تنطبق أوصافها على تصوره الذي سبق أن حدده في دراسة متكاملة، والذي يمكن أن يخوض معركة إنقاذ فلسطين.
على أن تصدع الجبهة السياسية الداخلية في فلسطين، ومخاوف دول الجامعة العربية من بعضها البعض، قد وضع المشروع على الرف، وبقي أسلوب التسليح الفردي مستمرا حتى إعلان مشروع التقسيم عام 1947.
وفي هذه الظروف تشكل جيش الانقاذ، وكان وصفي التل من أوائل الذين انخرطوا في صفوفه، مديرا للحركات الحربية فيه، ثم انتقل آمرا للواء الرابع الذي قاتل قتالاً ضارياً في الجليل. وخاض معركة الشجرة وأصيب بشظية بقيت أثارها في ساقه. ولما كانت الجيوش العربية قد دخلت الأراضي الفلسطينية يوم 15 أيار 1948، وأخذت زمام القيادة من جيش الإنقاذ أولاً، ثم احتوت جميع الحركات الشعبية الفلسطينية والعربية المسلحة، فقد اعتبرت مهمة جيش الانقاذ واللجنة العسكرية قد انتهت. وهكذا التحق المقدم وصفي التل أمر اللواء الرابع في جيش الانقاذ بالجيش السوري الذي استوعب عددا كبيراً من ضباط وأفراد جيش الانقاذ.
وفي عام 1949 عاد وصفي إلى عمان حيث عين في دائرة الإحصاءات العامة، وبرغم أنه كان موظفاً فقد كان مصراً على إصدار مجلة في تلك المرحلة الخطيرة، لمعالجة مظاهر التدهور والإحباط الشديدين، اللذان كانا يسودان جميع أفراد الأمة العربية. وفعلا شارك في إصدار مجلة الهدف، التي صدر أول إعدادها في 17 شباط عام 1950 تحت شعار " مجلة السياسة القومية والادب القومي" وقد شاركه في إصدارها كل من : برهان الدجاني وأنور الخطيب ويحيى حمودة ، كما كان من أبرز المساهمين فيها حازم نسيبة، وعبد الله نعواس، وعرفات حجازي، وموسى الحسيني. نشر وصفي في إعداد الهدف قصة جيش الانقاذ وكافة المعارك التي خاضها مع تحليل عسكري وتقييم لكل هذه المعارك.
وفي هذه المرحلة بدأ فكر وصفي يتبلور في نظرته للمجتمع والدولة، وكان من رأيه أنه لا بد من تحديد أمراض ومشاكل المجتمع قبل محاولة بنائه، ومن يومها أصبح وصفي ليس الرجل العسكري فحسب، بل من أبرز رجال الفكر والرأي. فكان يحدد أمراض المجتمع بكلمات وعبارات لاذعة وعميقة؛ فهو الذي أطلق اصطلاحات: الاعتذارية، القططية، النعامية، التمنن، على قطاعات المواطنين في ذلك الحين.
تسلم عام 1955 وظيفة مدير المطبوعات والنشر، ثم شغل بعدها بعام واحد المستشار للسفارة الاردنية في بون، ولم يكن من طراز السفراء الذين يحصرون اهتمامهم بما يعرض لهم من اعمال عادية. كان من طراز الرجال الذين يستشرفون افاق العمل القومي، خارج نطاق الوظيفة، ويعتقد أنه شخصيا مسؤول تجاه الوطن وقضاياه. ومن هذا المنطلق كتب من المانيا إلى جمال عبد الناصر عام 1956، يعرض عله استعداده للقتال ضد قوات العدوان الثلاثي. إلى أن انتقل عام 1957 رئيسا للتشريفات الملكية، وبعدها بعام تسلم منصب القائم بأعمال السفارة الاردنية في طهران، وفي عام 1959 شغل منصب المدير العام للإذاعة الأردنية، ورئيسا للتوجيه الوطني، وفي عام 1960 عين سفيرا للأردن في بغداد.
هذه المناصب كانت تقنع المسؤولين بان وصفي التل ليس مجرد موظف روتيني، بل كان له شخصيته المتميزة، وبصمته الخاصة، وكان يملك دوما الخطط المدروسة والواقعية؛ فعندما تسلم مديرية المطبوعات شهد الاردن اضخم نشاط صحفي، وعندما تسلم مديرية الاذاعة والتوجيه الوطني سمع العالم، بل وكذلك الاردن لأول مرة بالأغنية الاردنية الاصيلة، والفنون الاردنية العريقة، وكان وصفي يشارك مع المؤلف وضع الكلمات، ومع الملحن تأليف النغم، وعندما انتقل الى السلك الخارجي كان حيث يكون للأردن صوته النقي، ويعلن سياسته بجرأة وحزم.
قام وصفي بتشكيل الحكومة خمس مرات ولكن على ثلاث مرحل، وعندما كلفه الملك حسين – رحمه الله- بتأليف حكومته الاولى في 28 كانون الثاني عام 1962، كان قد عرف تمام المعرفة شخصية وصفي، ونظرته العلمية نحو الدولة والمجتمع. وكان عندما يتحمل مسؤولية الحكم لا يأتيه شرها للجلوس على كرسي الحكم، كان يأتي وفي جعبته قضية، وفي حقيبته مخططا؛ ففي الوزارة الاولى اعاد تنظيم اجهزة الدولة، وحارب الفساد الاداري كالرشوة والمحسوبية، ورفع المستوى الوظيفي للإدارة. وتم تأسيس اول جامعة في الاردن، وتأسيس مؤسسة رعاية الشباب، ودائرة الثقافة والفنون، وبنك الانماء الصناعي، كما تم اقرار برنامج السنوات السبع للتنمية الاقتصادية 1964- 1970. كما عمل وصفي من اجل كسب ثقة الحزبيين والمعارضين، فقد صادق مجلس الامة في أوائل شباط عام 1962 على قانون للعفو العام شمل المعتقلين والفارين، إضافة للضباط الذين حكمت عليهم المحاكم بتهمة محاولة قلب نظام الحكم في إحداث عامي 1957 و 1958. ووعد في بيانه الوزاري أن تكون حكومته خادمة للشعب لا حاكمة له.
أما في وزارته للمرحلة الثانية فقد أرسى قواعد إعداد المواطن للمعركة، فكان أول من تنبه إلى ضرورة الاهتمام بالشباب ، فافتتح المخيمات الصيفية لهم، وأشرك القوات المسلحة في عملية البناء والتنمية من خلال شق الطرق، وحفر الآبار، وتمديد الأنابيب، وتدريب الشباب.
كان وصفي أول رئيس وزراء اختط زيارة المحافظات للاجتماع بالناس والاستماع إلى ما يريدون. وفي عهد وزارته الاولى عقد أكثر من جلسة لمجلس الوزراء في القدس، وأعلن أنها العاصمة الثانية للمملكة.
أما وزارته الأخيرة فقد كانت الأمة في محنة، والوطن في أزمة، والمواطن غير آمن ، وأهم من كل ذلك فقد أصيبت قضية التحرير بنكسة، أما قضية الوحدة الوطنية فكانت مهددة بافدح انشطار.
وصفي التل والعمل الفدائي
عارض وصفي التل دخول الاردن حرب حزيران 1967، عندما كان رئيساً للديوان الملكي، وكان يرى أن الهزيمة ستكون محققة؛ لأن العرب غير مستعدين لخوض الحرب. وبعد انتهاء الحرب بثلاثة أيام استقال وصفي من منصبه. ولكن وصفي الذي عارض دخول الحرب لم يلبث بعد الهزيمة أن أخذ يقول: الآن علينا أن نحارب، وكان يرى أنه لا يمكن الوصول إلى حل مشرف إلا بالحرب، وإن اسرائيل لن تنسحب من الأراضي المحتلة بغير قتال، وكان من رأيه أن المجال أمام العرب هو حرب العصابات، ومن هنا كان وصفي يؤمن بضرورة العمل الفدائي، ويعتقد أنه لا بديل عنه، وأن يتحول جانب من الجيوش العربية الى فدائيين .
وكان يرى أن الفدائيين يجب يوجهوا نشاطهم الى داخل الاراضي المحتلة، وأن تتمركز المقاومة في الأرض المحتلة، وتنشئ لها قواعد هناك، وكان يريد من العمل الفدائي في الأردن أن ينسق مع سلطات الدولة، كما هو الحال في سوريا والأقطار العربية الأخرى.
إلا أن زمام الأمن بدأ يفلت في الاردن بعد معركة الكرامة؛ إذ اشتدت هجمات العدو على قواعد الفدائيين، فأخذ هؤلاء يتراجعون إلى المدن ويقيمون قواعدهم فيها، وأخذت نشاطاتهم تتخذ طابعاً سياسيا، بحكم تعدد المنظمات، وتبعية أكثرها لدول عربية.
والذين عرفوا وصفي جيداً يعرفون أنه لم يكن خصما للعمل الفدائي، أو ليس طرفا ثانيا للعمل الفدائي، بل إنه في طليعة اللذين نادوا بقيام العمل الفدائي، فقد كان وصفي رجلاً عسكرياً ومناضلاً، وله تجربته العملية الطويلة، وقد لاحظ خطئًا حاول إصلاحه بشتى الوسائل، ولما أيقن أنه قد دس على العمل الفدائي أعداء للمعركة، وأعداء للأردن، وأعداء للعروبة، وأعداء للتحرير، فقد وقف أمام هذا الدس بصلابة وجرأة وشجاعة، وأعلن أنه يحمي العمل الفدائي المقدس من الذين تسلقوه لأغراض لا علاقة لها بالفداء من قريب او بعيد.
لقد بدأت الخلافات بين المنظمات متعددة المشارب والمرجعيات السياسية والفكرية تظهر أمام الراي العام، بل أن هذه الخلافات تجاوزت الرأي العام المحلي بل والعالمي، وكان وصفي قد وصل في تلك المرحلة الى قناعة بأن انهيار الحكم في الاردن هو من أول أهداف الاستراتيجية الاسرائيلية.
كانت هذه افكار وصفي التي بلورها بعد أن بدأت نذر الانشقاق في بعض قيادات المنظمات، وبعد أن بدأت العناصر الدخيلة المدسوسة تتسرب الى صفوف الفدائيين، وبعد أن تكاتفت عدة قوى أجنبية لإيجاد حل وتصفية للقضية الفلسطينية على أساس التخلص من المملكة الاردنية، واشباع رغبة بعض العرب بدولة فلسطينية، ولو لم تكن على شبر واحد من أرض فلسطين.
وكان وصفي التل في طليعة المؤمنين باستحالة موافقة اسرائيل على الحل السلمي، واستحالة جلائها عن شبر واحد من الاراضي المحتلة بغير القوة، وكان يؤمن بضرورة الحشد العسكري: جيشا وشعبا وفدائيين، في خطة واحدة وتحت قيادة واحدة، حتى يمكن اولا افشال مؤامرة تخريب الاردن، على اساس ان الاردن هو القاعدة الرئيسة لكل جهد عسكري، ثم حتى يمكن خوض معركة موحدة مع العدو الذي يدير شؤونه المختلفة تحت قيادة واحدة مستندة الى العلم والقوة والتجربة والتخطيط.
الحكومة الاخيرة
شكل وصفي حكومته الخامسة بعد فتنة أيلول بتاريخ 29 تشرين الأول عام 1970، وقد قوبل تكليفه بموجة ارتياح عارمة في مختلف أوساط القوات المسلحة والفدائيين والشعب، وكان من مظاهر هذا التأييد توقف اجهزة إعلام المنظمات عن مهاجمة الأردن، وتقاطر الوفود التي هرعت لتهنئته، وكان وفد اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية من أول الوفود التي قامت بزيارته في مكتبه في اليوم الأول من استقباله للوفود. وفعلاً كادت الامور تسير وفق ما يتمناه كل عربي مخلص، إلى أن ظهرت مواقف بعض الدول العربية بعد أكثر من أسبوع، وكان في هذه المواقف تحريض للمنظمات على عدم التعاون مع الحكومة الأردنية.
ولا شك أن من اكبر الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها بعض المنظمات وسكتت عليها البقية الأخرى، هو رفعها شعار(لا سلطة الا للمقاومة)، وترديدها علنا وفي صحف أخذت تطبعها وتوزعها في الأردن، وفي خطابات تعقد لها المؤتمرات في أحياء العاصمة، ومختلف المدن والقرى الاردنية، وهي تعلن صراحة بضرورة إزالة النظام الأردني.
ويؤكد وصفي أن خطة حكومته قائمة على وضع العمل الفدائي على طريقه الصحيح؛ إذ أن العمل الفدائي كانت له بداية جيدة، لا يمكن لأحد أن ينكرها على الأطلاق، وخاصة عندما بدأت بالقلة المقاتلة المصممة على التحرير. وفي تلك المرحلة لم يكن من مواطن أو جندي يبخل في أن يفتدي العمل الفدائي بنفسه وماله، أما بالنسبة للقوات المسلحة الأردنية فقد كان العمل الفدائي يجري بحمايتها ودعمها، وكانت المدن والبلدات الأردنية عرضة لغارات جوية عنيفة سقط فيها العشرات من الشهداء المدنيين والعسكريين.
ولكن بعد هذه المرحلة بدأ الانفلات يتسرب إلى العمل الفدائي؛ فالحزب السياسي الفاشل وجد لنفسه بابا عن طريق العمل الفدائي، والانتهازيون والخارجون على القانون استطاعوا إخفاء أنفسهم ونواياهم، فتستروا أيضاً بالعمل الفدائي، كما ساعد تسرب العملاء وخاصة الذين جندتهم إسرائيل، واستطاعوا أن يكونا عنصراً هاماً في تخريب وتوجيه بعض المنظمات.
ويؤكد وصفي التل أن هذا الوضع لم يكن من باب الاستنتاجات، بل هو حقائق ووثائق اعترفت قيادات الفدائيين بمعظمها. وعندما يروي وصفي كيف وقعت فتنة أيلول لا ينسى أن يؤكد انه لا يتهم الفدائيين جميعهم؛ إذ ان هناك عناصر مقاتلة شريفة وشجاعة تعرف واجبها وهدفها، وتتصف بمستوى خلقي وسلوكي عالي، ومدربة ومؤهلة للعمل الفدائي الشريف والحقيقي.
الرحلة الاخيرة
في 25 تشرين الثاني من عام 1971 اختتم رؤساء أركان حرب الجيوش العربية في القاهرة اجتماعاتهم التي كانوا قد بدأوها في اليوم السابق. وتقرر ان يبدأ مجلس الدفاع اجتماعاته يوم السبت 27 تشرين الثاني. ولما كان وصفي يتولى منصب وزير الدفاع، اضافة لكونه رئيس مجلس الوزراء، فقد قرر أن يحضر شخصيا تلك الاجتماعات بوصفه وزير الدفاع الاردني. وفي عمان تسامع الناس أن وصفي يسافر الى القاهرة، وكان هناك استغراب ، اذ كان معروفا أن الحكومة المصرية لا ترحب بقدومه.
قال لأصدقائه قبل السفر هذه الجلسة حاسمة وأساسية، وعندي برنامج عمل اريد ان يتبنوه، عندي خطة تقوم على العقل، وأريد أن أرى اذا كان العرب يقصدون أن يتخذوا سبيل العقل والمنطق. إن لدى العرب امكانات كبيرة يجب أن تنسق بشكل صحيح وبإخلاص. يجب أن احاول واذا اخفقت فسوف اطلق السياسة الى الابد.
وفي 26 تشرين الثاني سافر وصفي، وودعه الملك حسين بنفسه، وكان الحسين يدرك خطورة الخطوة التي أقدم عليها وصفي، ويعرف أن رئيس وزرائه يعرض نفسه لمجازفة كبيرة، وفي 28 تشرين الثاني اغتيل وصفي اثناء دخوله فندق الشيراتون في القاهرة.
ودوّى النبأ الفاجع يقول للدنيا كلها بأن وصفي التل قد سقط شهيدا بيد الخسة والعمالة، ليكون سقوطه قمة حياته وتجسيدا لانتصاره، وانتصار مبادئه وافكاره. لقد سقط وصفي شهيدا خالدا وبقي العار يلطخ الذين تآمروا عليه، وغدروا به، بعد أن عجزوا عن مقارعته الحجة بالحجة. كان وصفي ابنا بارا شجاعا أعطى وطنه وأمته عمره وشبابه، وما كان لوصفي الا أن يكون كذلك فهو فارس من فارس، والده شاعر الاردن الخالد مصطفى وهبي التل، الذي تغنى في شعره بكل حبة تراب أردنية، وعاش وصفي ليعمد كل ذلك الحب للأردن بروحه الزكية.
وفي يوم الاثنين 29 تشرين الثاني شيع الاردن كله وصفي التل من منزله في ضواحي صويلح الى المقابر الملكية في عمان، عشرات الالوف ساروا وراء الجثمان، وكان الحسين يتقدم موكب الجنازة. كان هناك شعور عام بالفجيعة، وكان هناك استنكار اجماعي للجريمة لا فرق بين فلسطيني واردني، بكاه الحسين وبكاه الاردنيون والفلسطينيون.
اعطى وصفي عمره للأردن، مع ان مفارقات القدر شاءت ان يولد في العراق وان يموت في مصر، كأنه ساعة موته كان يذكر بيت شعر لأبيه مصطفى:
يا أردنيات إن أوديت مغتربا فانسجنها بابي أنتن أكفاني.
ونسجت الاردنيات أكفان وصفي بدموعهن، وبقي وصفي تاريخا لا يمحى وذكرى لا تموت.
يذكره الفقراء كلما نهش الغلاء والجوع أبدانهم، فقد كان واحدا منهم، يذكره الضعفاء والمساكين كلما أحسوا أن وحش الفساد والرشوة وشراء الضمائر يكشّر عن أنيابه نحوهم، فقد كان السّهم الذي يرمي كل فاسد ومرتش فيصيبه في مقتل.
يذكره الاباء كلما أحسوا أن متطاولا يحاول أن يمس هيبة دولتهم، فقد كان خير من يمثل هيبة الدولة والنظام، يذكره الاعزة كلما حاول عابث أن يمس كرامتهم، فقد قضى فداءا لكرامة شعبه ووطنه وقناعاته، يذكره الفلاحون فقد كان صوت زرّاع الارض التي أحب وافتدى.
نذكره ونحبه، فالشعوب تحب من ابنائها من لا يستكبر ولا يستعلي عليها، ولا يترفع عنها، وقد جمع بين حبه للأرض الاردنية المعطاء، والمواطن الاردني الطيّب في كل المواقع. وهو صاحب الرأي الحر الجريء، والفكر السياسي المستنير، والموقف الواضح الصريح. عاش ملتزما بالقيم الاصيلة، وخلاصة الفكر الانساني المتجدد، وظل من القادة الاردنيين المعدودين، الذين وجد فيهم المواطن فلاحا وجنديا ومثقفا، استجابة أمينة لحاجاتهم وآمالهم.
إن واجبنا ونحن نقرأ هذه الصفحة المشرقة من تاريخنا الوطني، أن نحيي قيما واخلاقا كانت تسود في وطننا، عندما كان الاحترام هو العلاقة الأميز في مجتمعنا، وكان لقوانا السياسية أخلاقياتها وطموحاتها التي تتجاوز الاشخاص.
وكان هم الذين يصلون الى مواقع المسؤولية أن يضيفوا الى البناء الوطني مداميك تعليه، وليس رجالا ينفقون من رصيده شعبا وإنجازا، فالشعوب والاوطان ليست حقول تجارب للمغامرين، وعابري السبيل والفاسدين.
إن احياء سيرة الشهيد وصفي التل، والتحدث عن مناقبه وسجاياه، وتحليل المبادئ الوطنية والقومية التي صاغت فكره السياسي، ووجهت سلوكه في كافة مراحل حياته، يقدم لأجيالنا نموذجا فذا يحتذى به في الرجولة والشجاعة والوطنية وصدق الانتماء، ومثلها الاعلى في تحمل المسؤولية، وإدارة الحكم بالعدل والامانة والنزاهة، وطهارة اليد ونقاء الضمير.