العروض العربي.. هل يغادر خيمة الفراهيدي؟
من بين علوم العربية كلها، يكاد يكون علم العروض وحده لا يزال على الحالة التي ولد عليها.. تعقدت مسالكه وتداخلت مباحثه، وأُثقل بمصطلحات قاموسية وضوابط تكبح القرائح المتدفقة. وقد لا تكون معيارية العروض وقواعده الصارمة تلك -كما يرى البعض- مناسبة للوظيفة الإيقاعية باعتبارها فنا يستهوي الشعراء.
وقد أفرز كل ذلك صعوبة حادة في استيعاب هذا العلم وتشعباته بررت الانصراف عنه من قبل الجيل الجديد من الشعراء الذين وجدوا في القوالب الشعرية الجديدة كقصيدة النثر وما شاكلها أوعية سهلة تحتضِن تجاربَهم، بعيدا عن مشقة البحور الشعرية وتفاعيلها المعقّدة كما يرونها.
وهنا يبرز تساؤل كبير عن مستقبل هذا الفن المرتبط بديوان العرب في ضوء صعوبته من جهة وظهور القوالب الشعرية السلسة من جهة أخرى.
المعمار الإيقاعي
ويرى الشاعر المغربي عبد اللطيف الوراري مؤلف كتاب "نقد الإيقاع" والمحاضر بجامعة محمد الخامس في الرباط أن فهم الشعر العربي وخواصه موقوف على فهم علم العروض، طالما أن الإيقاع في تأويل القصيدة العربية عنصر عضوي تكويني بالمعنيين الفني والفكري، وأن المعمار الإيقاعي يصبح بؤرة تركيز خاصة ومتوترة لمجمل القيم الوجدانية والرمزية التي تعبرها.
وبدوره يؤكد مدير بيت فلسطين للشعر سمير عطية أن تجاوز فن العروض في كتابات الشباب "تجاوز لأحد أركان الشعر الأساسية، ولو سلمنا بالصعوبة هنا كمبرر مقنع للتجاوز، فإن ثمة أدوات لغوية أخرى صعبة أيضا كالنحو والصرف وبعض مباحث البلاغة.. فهل تلقى ذات المصير؟".
ويرى الشاعراليمني أحمد قحطان أن العلاقة بين الإيقاعية والفنية في القصيدة إنما تضعف أو تقوى بمقدار موهبة المبدع، وأن الحداثةَ لا تعني كسر القديم دائما، وفي شعرنا العربي قديمه وحديثه ما يؤكد هذه المسلّمة بنماذج باذخة الإبداع كالمتنبي وأبي تمام، وكعبد الله البردوني ونزار قباني، وكلها أسماء حداثية بامتياز.
تجليات الأزمة
الأزمة التي يعيشها علم العروض اليوم بنظر عطية هي أزمة المبدع الذي يريد أن يجرب الريادة عبر كسر القوالب بدعوى أنها تجمد الإبداع وتحول بينه وبين مرحلة الحداثة الشعرية.
كما أن الواقع الثقافي الذي يدعو إلى تجاوز أي علم من علوم اللغة -بحسب عطية- واقع يعاني من كثير من المعايير المختلّة التي ساعدت على ظهور أنصاف المواهب وأرباعها.
ولا يعود ذلك إلى تنصل هؤلاء من العروض كما يقول الشاعر الفلسطيني، ولكن لسطحية في المفردات وفقر في المعرفة، وتعجل لقطع المسافات وحرقها نحو الشهرة، ورفض لدور النقد في تطوير الموهبة، وزهد في معرفة اللغة وأسرار بلاغتها، واهتمام بالكثرة على حساب النوع، فاستبدلت نماذج "الحوليّات" أو "الشهريات" أو "الأسبوعيات" بقصائد "اليوميّات"، وأخيراً إلى نموذج أسمّيه "اللحظيات".
أما الدكتور الوراري فيرى أن مرجع هذه الأزمة نقدي بامتياز، ذلك أن دراسة الإيقاع تمت من رؤى متباينة وبدوافع مختلفة: إما تفسيرية ذات صلة بعلم العروض، أو سجالية ذات صلة بحمى الجدال النقدي الذي ارتبط بتحول الدال العروضي داخل الكتابة الشعرية الحديثة.
ويقترح الوراري لتجاوز هذا الالتباس البحث عن مكان آخر لقراءة العروض لا يتأثر بهذا المنظور أو ذاك، ويكون أفقا للمساءلة التي بها وحدها يعيد فك الارتباط القسري وغير المنتج بين الإيقاع والعروض، ويصعد مكبوت الإيقاع وطاقاته، مما يمكّن من تحرير الإيقاع من نظريتي الشكل والإيقاع المجرد.
وبذلك -كما يضيف الوراري- "نكون قد أسدينا واجبا لتجديد علم العروض العربي ووضعيته الإبستيمولوجية، وانتبهنا إلى عمل هذا الإيقاع ومساحاته المدهشة في القصيدة العربية التي تقدم نفسها اليوم كأفق يتعاظم باستمرار، بحيث تتعدد متون الشعر وتجاربه، وتختلف إلى حد التعارض".
وبالتالي، فإن إعادة بناء الموضوع المتعلق بعلم العروض -حسب الوراري- تدخل بالضرورة في سياق إعادة قراءة نظرية الشعر العربي بمرجعياتها المتنوعة، وهوامشها المختلفة، النقدية والبلاغية والفلسفية، من مكانِ يجعل البحث متجاوبا مع هاجس بعض الدراسات الجديدة التي تمت في الموضوع نفسه، بقدر ما ينفتح على آفاق الأنواع الأدبية وتحليل الخطاب ونقد الإيقاع، ويعمل على إدماجها في سيرورة القراءة والتأويل.
ولعل دمج العروض في المناهج التعليمية في سياق تربوي ينتقل من السهل إلى الصعب، ومن البسيط إلى المركب، ومن المعلوم إلى المجهول، خطوة ضرورية في رأي أحمد قحطان الذي يأسف لتجاهل المناهج التعليمية في البلاد العربية ذلك.
ويدعو الشاعر سمير عطية إلى تجديد حقيقي لعلم العروض، مؤكدا أن الجهود التي بذلها "العروضيون" القدامى كالأخفش وابن طباطبا أو المعاصرون كنازك الملائكة وكمال أبو ديب وغيرهم، جهود رائعة لكنها تظل قاصرة، مؤكدا أن عصرنة هذا العلم وإخراجه من خيمة الفراهيدي إلى أفق الفن ضرورة ملحة، لانتشاله وتقديمه في طبق عصري أمام أجيال الشعراء.
(الجزيرة)