ناصر الدين الأسد: لا عروبة بغير هذا اللسان
المحاضرة التي ألقاها أستاذ العربيّة وآدابها، ناصر الدين الأسد، كانت بحجم الألم الذي يتعرّض له هذا اللسان المبين، وقد اطمأنّ نفرٌ ما يزال يتزايد، إلى (الأجنبيّة) لغةً، تتوهّج، وتتزوّق على الأشهاد، في البقالات والمطاعم، وعلى ألسنة طلبةٍ عندنا يُراد منهم أن ينشأوا نشأة الغرب في كلّ شيء.
قال الأسد، الذي استضافه نادي الفيحاء ، ليتداول ما استجدّ في مشروع قانون اللغة العربية الذي رُفعت مسودّته إلى رئاسة الوزراء قبل مدّة، إنّ ما (أرمضَ) الناس أرمضه، والعربيّة في أحسن أحوالها لهجات شتّى، تمّ السكوت على اعتمادها في المدارس والجامعات؛ بل بلغ التخفف في نحوها وصرفها وإملائها مبلغاً جعل المخلص لها يشعر بغربة وحزن في هذا الخضمّ المتهافت بحجج واهية، من مثل أن المعارف إنّما تُصاغ بلغاتٍ غير اللغة الأم.
موضوعيّة المحاضرة في أنّ صاحبها لم ينكر على المعرفة أن تُقدّم بغير لسانه، أو تتشارك في صوغ الحضارة، بيد أنّه أثبت أنّ العربيّة المبينة ينبغي أن تحترم، واحترامها يتّفق مع دعاة القوميّة والدين في الوقت ذاته؛ وذلك سببٌ كافٍ لئلا يتغوّل عليها الدخيل أو تميع باللهجات، مدللاً بأنّ الدستور لدينا يضع الدين واللغة ركنين مهمين؛ وفي حين يؤخذ المتطاول على الدين بجريرته، فلا يحرّك فينا كلّ هذا المسخ في الإعلانات واللافتات والمدارس والكليّات والمعاهد والجامعات ساكناً، أو يحفزنا، فنضع ضوابط تردع أو تعاليم جادّة نظريّاً وعلى المستوى التطبيقي في مناهج المدرسة والجامعة والإعلام لنحفظ لغتنا من أن يتناساها أبناؤها، وهي هويّتهم التي بها يعتزّون وإليها ينتمون.
من أجل ذلك، وضع الأسد الحضور بصورة (الهيئة العليا للمشروع الوطني في الدفاع عن اللغة العربيّة)؛ وهي هيئة قال عنها إنّها تتكامل مع مجمع اللغة العربية الأردني، وأنّها، بصفته رئيساً لها، ليس القصد منها أن تُستبدل بالمجمع، فهي هيئة كانت لقيت ترحيب رئيس الوزراء السابق وانحيازه الكامل لها، وكان همّ بتقديمها لمجلس النواب، غير أنّّه لم يتسع له الوقت، كما قال الأسد، فعدنا على المشروع، نوقظه، ونبثّ جدواه في المنتديات والنوادي والهيئات والمجالس الثقافيّة والعلميّة.
الأسد وهو يحشد، في المحاضرة التي قدّمه فيها رئيس نادي الفيحاء عبدالله كنعان، طائفةً من أحاديث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، لم يكن بعيداً عن الواقع، وتلك ميزة للرجل وهو يضع اللغة العربية أهم سلاحٍ في معركة الوحدة العربيّة؛ فهي اللغة الأمّ التي نتقارب بها في الفكر والحضارة والهمّ العربيّ ووحدة المصير.
العقبة الكأداء أمام التعريب ليست في القرار السياسيّ، عند الأسد، وإنما هي في قناعة هيئة التدريس بجدوى اللغة وإيمانهم بمحمولها الفكريّ والعلميّ الحضاريّ، حتى لو رحّل الآباء أبناءهم من مدرسةٍ سمعوا أنّ شهوةً لديها في تقوية (النطق بها أو تعلّمها)، وفي السياق استحضر الأسد الطبيبَ الذي يحفظ مفردات (وظيفيّة)، إن هو جاوزها اضطرب واختلطت عليه الأمور، كما استعاد سعد زغلول باشا وزير المعارف المصري وهو يعيد العربيّة إلى المدارس بعد كلّ ذلك الغياب.
إذا كانت الدولة الواحدة عندنا تتوافر على لهجاتٍ متباينة، فكيف بها في وطنٍ يزخر بالكثير منها؟!...، وقد جرّب المحاضر،كما قال، أن يتتبع الحديث بين عربيينِ يتحدثان لهجتين مختلفتين؛ فلم يستطع أن يتبيّن فحوى الحديث، واجداً أنّ العربي في مسقط على سبيل المثال يستطيع أن يفهم حديث أخيه في نواكشوط إن كانت العربيّة وسيطاً للتفاهم أو الحوار.
من ادّعى أن لغتنا ميّتة، وأنّ العاميّة هي السبيل، ما يزال يدلّس علينا، كما يرى الأسد؛ ففي الوقت الذي ابتدعت (الأسكيمو) لنفسها لغةً، وكانت فيه (الأمازيغيّة) قبل زمن تبحث لنفسها عن حروف وطريقةٍ في الكتابة، وفي الوقت الذي تنادد لغاتٌ طارئةٌ لغةً عريقةً في جوارنا العربيّ، كما قال الأسد، فإنّ من العيب ألا يستفزّنا ذلك، لنحفظ لغةً مكثت سبع قرون لغة العالم، ليقلقنا هذا الذي يقول: تطورت الحياة وتغيّرت الدّنيا، فلماذا نتحدث عن العربيّة اليوم؟!
يجيب الأسد واثقاً من أنّ مغالطاتٍ يشتمل عليها القول بتغير الحياة؛ فالعربية هي اللسان، ولا عروبة بغير اللسان، وأن يُهجى المرء بلسانٍ عربي خيرٌ وأحبّ إليه من أن يُمدح بغير هذا اللسان، ثمّ، كما يرى الأسد، إنّ عدواً رابضاً، أحيا لغته الميتة، فظهرت في الأوساط الأكاديميّة والعلميّة، ونحن بين يدينا لسانٌ معجزٌ مبين، لا نقدر حتى على الحفاوة به.
لسنا على خصومةٍ مع اللغات الأجنبيّة، ونؤمن أنّ المرء لا يعرف للغته قدراً حقيقياً علميّاً إلا إذا أتقن لغةً واحدةً غير لغته على الأقل، يضيف الأسد، لكنّ مسألة التغوّل على هذه اللغة الأم، اللغة القوميّة، لغة البلاد، هي ما يقلق، ويجب أن تُستنفر لأجله كلّ الجهود.
ومن المحزن أن يقول معلّمٌ وُلد بين ظهراني العربيّة ونطق بها: (لستُ معلم لغة عربيّة)، ويزداد قوله مضاضةً وهو يقولها بالعاميّة التي لا تبالي؛ فتتفرع عن لهجات لا تنتهي، تكون خليطاً مما يتداوله أبناؤنا والناس في الحواسيب والفضائيات من تعابير وتراكيب أخذت تستقلّ وتحيط نفسها بجمهور شابٍّ مسحور، يتصنّم فاغراً فاه، لا يعي خطورة ألا يتعلّم لغته الأم، أو مغبّة أن يخجل حتى من النطق بها في المحاضرات والمدارس والجامعات.
يرى الأسد أن (العربيّة) حين تحصر نفسها في مادّةٍ مدرسيّةٍ واحدة، مهما تنوعت، فإنّ المأساة تنال المعلمين قبل الطلبة في موادّ المدرسة الباقية، وهم يتأملون أسواقنا وشوارعنا تكتب باللغة الإنجليزية، في حين كان ينبغي، كما ينصح الأسد أن يتضخّم الحرف العربيّ ويتضاءل نظيره الأجنبيّ على لوحات الإعلانات، بل يُرسم تالياً له، لأنّ في ذلك جهراً بالانحياز الكامل لهذه اللغة العظيمة، التي لم يعد حتى أساتذتها في الجامعات الأردنيّة يتحدثون بها في محاضراتهم أو يحثّون تلميذ التخصص على السؤال أو التعليق بها، أو حتى يحببونه إليها.
أنْ تُفرّغ المناهج والكتب المدرسية من النصوص التأسيسيّة التأصيليّة، بالجفاف القاتل، هي مشكلة كبيرة عند المحاضر الأسد، الذي قال إنّ الهيئة العليا للمشروع الوطني للدفاع عن اللغة العربية كانت شكّلت لجنةً تدرس مناهج العربية في المدارس، لتقف على الأسلوب والمضمون، في جوٍّ من الحياد والموضوعيّة.
المحاضرة التي لقيت تجاوباً وشعوراً بالتقصير الحاصل تجاه العربيّة، وحضرها عضو الهيئة العليا للمشروع بلال التل، وأساتذة جامعات ومهتمون، آثر الأسد فيها أن يكتفي بما أورد، لأن قضايا شائكة تتداخل لا تستوعبها السّاعة أو الساعتان في هذا المنتدى أو ذاك، بل هي جهد يتراكم ومشروع لدى الهيئة يحترم التطبيقي الممكن وينأى عن الحديث العابر من شرفة التنظير، تجاه تحدياتٍ واجهت العالم والناس وهذه اللغة التي وسعت الكتاب واستوعبت الجديد.
في سياقٍ متّصل، كانت تصريحاتٍ للصحافة بيّن فيها وزير الثقافة د.صلاح جرار أهميّة أن يُقرّ قانون اللغة العربية، ويتم تأطيره حكوميّاً بوصفه مشروع هويّة، تتعاون فيه جهاتٍ عدّة، من أهمّها مجمع اللغة العربية الأردني ووزارتا الثقافة والتربية والتعليم وكلّ من يسهم في هذا المشروع الوطني المهم.الراي