jo24_banner
jo24_banner

الاستقالات الهولنديّة وصمت الانظمة العربيّة

أزهر الطوالبة
جو 24 :


الاستقالة التي قدّمها عدد من أعضاء الحكومة الهولندية على خلفيّة حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين، تُمثّل حدثًا سياسيًا لافتًا، لا لكونِها ستُغيّر مسارَ الحرب أو تفرض تحوّلًا جذريًّا في موازينِ القِوى، بل لأنَّها تطرح سؤال المسؤوليّة السياسية بشكلٍ مُباشر: ماذا يعني أن تكونَ في موقعِ القرار، بينما تُرتكَب جريمة بهذا الحجم؟

السياسةُ في جوهرِها ليست إدارة المصالح فقط، بل أيضًا إدارة التّبعات. الوزير أو المسؤول ليس فردًا حُرًّا، بل هو ممثلٌ رسمي، ووجوده في السُلطة يعني شراكة سياسية في كُلّ قرارٍ أو صمت يُنتج. لهذا وجَدَ الوزراء الهولنديّون أنفسهم أمامَ مُعادلةٍ واضحة: البقاء في مواقعهم يعني القبولَ الضمنيّ ب"الإبادة"، والاستقالة تعني التنصُّل من هذه الشراكة. لقد اختاروا الخيار الثاني، ليس حبًا في الفلسطينيين، بل حفاظًا على نقاءِ موقعهم السياسيّ أمام ناخبيهم وأمام التاريخ.

هذا ما يُسمّى في العلوم السياسية "المسؤولية التضامُنية للحكومة"؛ أي أنّ الحكومةَ ككل تُحاسَب على القرارات والسياسات، حتى لو لم يوافق عليها بعض أعضائها. ومن هنا تصبح الاستقالة أداة سياسية لحماية الذّات من التورُّط في خطّ رسميٍّ مُلطّخ بالدَّم. الاستقالة هنا ليست فعلًا أخلاقيًا مجرّدًا، بل فعل سياسيّ يحمي الموقف، ويترك أثرًا في المُعادلة الداخليّة، وربما يفتح الطريق أمام مساءلةٍ أوسع داخل البرلمان أو في الرأي العام.

على النقيض من ذلك، يظهر الموقِف العربي وكأنَّهُ مُفكّك ومُنعدِم الوزن السياسيّ. فالحكوماتُ العربيّة، التي يُفترَض أنّها معنية مباشرة بالقضيّة الفلسطينيّة، بحُكمِ القُرب الجُغرافيّ والتاريخيّ، لم تُمارِس "الحدّ الأدنى" من آلياتِ المسؤوليّة السياسيّة. لم نرَ استقالة، ولا حتى مُساءلة داخليّة، بل مّجرّد بياناتٍ باهتة أو صمت مُطبق. وهذا يعني، أنَّ الأنظمةَ العربيّة لا تنظُر إلى السُلطة باعتبارها موقع مسؤوليّة، بل باعتبارها ملكيّة خاصة مُنفصِلة عن الشّعب والتّاريخ.

سياسيًا، هذا الصّمت يُترجَم إلى نتيجةٍ أخطر: تثبيت إسرائيل كلاعبٍ (بل سيّد اللُّعبة) طبيعيّ في المنطقة، وتفريغ الموقف العربيّ من أيّ قُدرةٍ على الفعل. بينما الاستقالات الأوروبية –حتى لو كانت رمزيّة– تضع ضغطًا على الحكوماتِ الغربيّة وتجبرها على إعادة حساباتها، فإن غياب أيّ فعلٍ عربيّ يجعل إسرائيل أكثر اطمئنانًا إلى أنَّ محيطها لن يُشكّل عائقًا سياسيًا أمام استمرار الحرب.

الدرس هنا ليس في مقارنة "ضمير" أوروبا بـ"صمت" العرب، بل في فهمِ كيف تتعامل النُّخب السياسيّة الغربيّة مع المسؤولية بوصفِها عبئًا يفرض الفعل، بينما تتعامل النُّخب العربيّة مع المسؤوليّة بوصفها لا تعني سوى حماية الكُرسي. الفارق بين الاستقالة في أوروبا والجُمود في العالم العربي هو الفارق بين نظامٍ سياسيٍّ يقوم على المُساءلة والتناوب، ونظام سياسي يقوم على التمسُّك الدائم بالسُّلطة دون تبعات.

الخُلاصة: الحدث الهولندي يُذكّر بأنَّ السياسة، في صيغتها الحديثة، تقوم على استعدادِ المسؤول لدفعِ ثمن موقفه، ولو بالاستقالة. أمّا في العالمِ العربيّ، فلا وجودَ لهذا المفهوم؛ هناك فقط سًلطة تعيش فوق كُلّ الحِسابات، ولا ترى نفسها مُلزمة لا أمام شعبها ولا أمام جيرانها ولا حتى أمامَ التاريخ.


كلمات دلالية :

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير