ملامح الفترة المُقبلة بعد افتتاح الدّورة العاديّة
أزهر الطوالبة
جو 24 :
افتُتِحت اليوم الدورة العادية الثانية لمجلس النواب العشرين، بخطبة العرش التي ألقاها جلالة الملك، محدّدًا من خلالها ملامح المرحلة المقبلة، ومخاطبًا الأردنيين بلغةٍ امتزج فيها القلق الوطني بالأمل، والواقعية بالإصرار على تجاوز الصعوبات. لم يكن هذا الافتتاح عاديًّا ؛ لأنّ الظروف التي يعيشها الأردن لم تعد عادية. فالتحديات تتزاحم على الداخل كما على الإقليم، والبلد يقف على عتبة مرحلةٍ تتطلب وعيًا جديدًا وإرادةً متجددة في الإدارة والحكم والعمل العام.
في قراءةٍ أولى لخطبة العرش، يمكن القول إنّ الملك أراد أن يُذكّر الجميع بأنّ الإصلاح لم يعد ترفًا ولا خيارًا جزئيًا، بل هو ضرورة بقاءٍ وتجديدٍ للدولة نفسها. الرسائل كانت واضحة في أكثر من اتجاه: أنّ المواطن يجب أن يبقى محور القرار، وأنّ مجلس النواب مطالب بأن يكون سلطةً فاعلة لا شكليّة، وأنّ الحكومة أمام امتحانٍ جديدٍ في استعادة الثقة والقدرة على الإنجاز. هذه هي المعادلة التي يعرفها الأردنيون جيّدًا، لكنّها المرة طُرحَت بنبرةٍ تتّسم بالجدّية والتّصميم.
الواقع الداخلي لا يخفى على أحد: وضعٌ اقتصاديٌّ مرهق، وبطالةٌ متنامية، وتراجعٌ في مستويات الثقة، وشعورٌ عام بأنّ الإصلاح السياسي يسير بوتيرةٍ لا توازي طموح الناس. ومع ذلك، فإنّ ما يميّز اللحظة الحالية هو اعتراف الدولة — عبر أعلى منابرها — بأنّ معالجة هذه الملفات لم تعد تحتمل التأجيل، وأنّ الإصلاح لا يُقاس بالخطط الورقية بل بالنتائج التي تمسّ حياة المواطن اليومية.
الأردن اليوم أمام مفترق طرقٍ داخليٍّ واضح: إمّا أن يستمرّ في الدوران داخل دائرة الأزمات ذاتها، أو أن يختار التقدّم بخطىً شجاعة نحو بناء عقدٍ اجتماعيٍّ جديد، يُعيد ترتيب العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس المشاركة والعدالة والكفاءة. فالمطلوب، سياساتٍ تُقنع، وقراراتٍ تُحدِث فرقًا حقيقيًا في حياة الناس.
أما على المستوى الإقليمي، فقد جاءت الخطبة في توقيتٍ بالغ الحساسية، بينما تشهد المنطقة تحوّلات متسارعة: حرب غزة التي لم تهدأ آثارها، والتوترات الممتدة في الإقليم، والضغوط الاقتصادية والأمنية التي تُلقي بظلالِها على الأردن مباشرة. ومع كلّ هذا، حافظت عمّان على سياستها المتّزنة، فبقيت صوت العقل في منطقةٍ تموج بالتطرف والاستقطاب. لكنّ استمرار هذا الدور الإقليمي يتطلب جبهةً داخلية أكثر صلابة، واقتصادًا قادرًا على الصمود، ومجتمعًا مؤمنًا بأنّ تماسكه هو درعه الأول والأخير.
ما بعد خطبة العرش ليس مجرد مرحلةٍ تشريعيةٍ جديدة، بل امتحانٌ للدولة بكلّ مؤسساتها. فالمطلوب من الحكومة أن تترجم الخطوط العريضة إلى برامجٍ قابلة للتطبيق، ومن مجلس النواب أن يتحرّر من دور المُتفرِّج ليصبحَ شريكًا في القرار لا تابعًا له. أما المواطن، فعليه أن يُدرك أنّ الإصلاح لا يُصنع فقط بالمطالبة، بل بالمشاركة الواعية والرقابة المستمرة.
الأردن، كما أكّد الملك في خطبته، ويؤكّد دائمًا، دولةٌ صغيرة بحجمها، كبيرة برسالتها ودورها، ومهما اشتدت الظروف، يبقى هذا البلد نموذجًا في الاستقرار والتوازن. لكن، هذا النموذج يحتاج اليوم إلى تجديدٍ في أدواته، وإلى صدقٍ في التعاطي مع التحديات. فالإيمان بالوطن لا يكون بالشعارات، بل بالعمل اليومي الصادق، وبالقدرة على تحويل الأزمات إلى فرص.
لقد افتُتِحت الدورة، وأُلقيت الخطبة، وبقي السؤال الأهمّ معلّقًا على الجميع:
هل نحن مستعدّون فعلاً لأن نبدأ صفحةً جديدة مع أنفسنا؟
الجواب، كما يبدو، سيتجاوَز الخطابات، وسيُكتَب في الأفعال.








