الصحافة الألمانية تجبر رئيس المخابرات على الاعتراف.. ولكن..
جو 24 : كتب تامر خرمه - الصحافة الألمانية تتوقّع من مخابرات بلادها المزيد من التعاون فيما يتّصل بحقّ الحصول على المعلومة، ما يعدّ مؤشّرا لانتهاء "موضة المصادر السريّة" التي هيمنت على علاقة السلطات بالإعلام في القارّة العجوز خلال السنوات الأخيرة، ولا سيّما بعد تسريبات موقع "ويكيليكس"، والتي دفعت بأجهزة المخابرات الغربيّة الى محاولة تفعيل قانون "المصادر السريّة" لكبح جماح حريّة الصحافة.
المشكلة لدى هذه الأجهزة المخابراتيّة أنّها عاجزة عن التعامل مع قطاع الإعلام على النحو الذي تتعامل فيه مخابراتنا العربيّة مع هذا القطاع، والسبب لا يتعلّق بالقوانين والتشريعات الغربيّة، فحتّى تلك القوانين تتضمّن ثغرات تمكّن السلطات من فرض هيمنتها على الإعلام، وإنّما تكمن مشكلة المخابرات الغربيّة بأن عليها مواجهة الأعراف السياسيّة، والتي لا تتيح لها التصرّف كما تشاء مع صاحبة الجلالة "الصحافة".
وعودة إلى ألمانيا وتوقّعات وسائل الإعلام فيها، فإن تصريحات أحد رؤساء الوكالات المخابراتيّة الأسبوع الماضي، والتي تعهّد فيها بأن يكون أكثر انفتاحاً على وسائل الإعلام في بلاده، فيما يتصل بحقّ الحصول على المعلومة، يمكن اعتبارها مؤشّرا على انتهاء حقبة ما يمكن تسميته بالتمسّك بذريعة المصادر السريّة لحجب المعلومة، حيث اضطر هذا المسؤول في المخابرات الغربيّة على الإدلاء بتلك التصريحات، بعد أن اعترف بحقيقة ما نشرته بعض وسائل الإعلام الألمانيّة عن المخافر السريّة، وهو ما كانت قد أنكرته المخابرات هناك، قبل أن تتفاجأ بنشر تلك المعلومات على موقع "الويكيبيديا"، لتكون متاحة أمام الجميع.
المخابرات الألمانيّة لم تلجأ إلى تهديد الصحافيين أو اعتقالهم بأمر من محكمة أمن الدولة، رغم إمكانيّة اللجوء إلى مثل هذه الألعاب عبر قانون "المصادر السريّة"، ولكن تلك المخابرات لم تجد أمامها سوى التعهّد لوسائل الإعلام في بلادها بأن تكون أكثر انفتاحاً.
في تلك الحكاية تكمن الثغرة التي تجاهلها الساسة الأوروبيّون –عمدا أو عن حسن نيّة- فيما يتعلّق بمطالبهم بالارتقاء بالحريّات الإعلاميّة في دول الجوار، وفي الأردن على وجه التحديد.
هؤلاء الساسة مازالوا يفكّرون بذات العقليّة الكولونياليّة، معتبرين أنفسهم "المعلّم المتحضّر" الذي يسعى إلى "تطوير" التشريعات والقوانين في المنطقة العربيّة، بما يضمن "حقوق الإنسان" والتقدّم نحو "الديمقراطيّة".
ومن هنا انطلق المسؤولون في قسم الخدمات الخارجيّة الأوروبيّة، الـ(E.E.A.S) في رسم مسار مقاربتهم، التي تعتبر أن تطوير البيئة التشريعيّة فيما يتعلّق بحريّة الصحافة في الأردن، إلى جانب دعم الإعلام تقنيّا وماليّا، من شأنهما الارتقاء بوسائل الإعلام لدرجة تمكّنها من لعب الدور الحقيقي الذي يترجم مصطلح "السلطة الرابعة" على نحو واقعيّ وملموس.
ولكن، هل تكمن المشكلة حقّا في القوانين والتشريعات الناظمة للعمل الصحفي ؟
قانون حقّ الحصول على المعلومة –على سبيل المثال- تتضمّنه التشريعات الأردنيّة، وحتّى قانون المطبوعات والنشر العرفي يحرّم اعتقال الصحافيين دون محاكمة –وإن كان قانون العقوبات يجيز ذلك- غير أن المشكلة الحقيقيّة لا تتعلّق بسنّ القوانين والتشريعات، كما أنّها لا تتصل بهذا التناقض الغريب بين القوانين، وإنّما تكمن المعضلة بالعقليّة التي تدير شؤون البلاد، والتي تسنّ التشريعات المنسجمة مع المزاج الغربي لنيل المزيد من المساعدات الماليّة، مقابل ترجمة هذه التشريعات وفقاً للمزاج الاستبدادي المهيمن على المنطقة العربيّة منذ أكثر من نصف قرن.. هذا من جهة.
ولا ننسى –من جهة أخرى- أن استيراد التجارب الخارجيّة أثبت فشله طيلة السبعين سنة الماضية، والتي شهدت محاولات لا يحصى عددها، لـ "الارتقاء" بالواقع العربي إلى ما اعتبره البعض "النموذج" الغربي.
إذا.. ما هو الحلّ ؟
قبل الإجابة على هذا التساؤول علينا التوجّه لأنفسنا بالسؤال الأهمّ.. ماذا نريد؟؟
إذا كانت الحريّة هي القدر الذي نودّ اختياره للارتقاء بواقعنا وتحديد مسار مستقبلنا، فعلينا قبل أيّ شيء آخر، الاعتماد على أنفسنا، ولا يضيرنا الاستفادة من تجارب الغير، ولكن لا ينبغي أن نترجم هذه الاستفادة بعمليّة "الاستيراد"، ولا يكفي هنا تغيير البيئة التشريعيّة بما ينسجم مع القضايا الحقوقيّة التي تشكّل محور البروباغاندا الغربيّة.. وإنّما علينا البدء من الصفر.. من علاقة الشعب بالدولة، وعلاقة مؤسّسات المجتمع المدني ووسائل الإعلام بالسلطة الحاكمة، ومن ثمّ يمكننا الضغط لتهيئة البيئة التشريعيّة المنسجمة مع واقعنا وأهدافنا.. وهذه مجرّد وجهة نظر.
ولتحقيق هذا الأمر ينبغي قبل أي شيء آخر الارتقاء بالأدوات، والتي تتلخّص –فيما يتعلّق بالإعلام- بالجهة النقابيّة التي يفترض أن تمثّل هذا القطاع.
نقابة الصحافيين لا يجوز أن تبقى عضويّتها محصورة على العاملين في المؤسّسات الإعلاميّة الرسميّة وشبه الرسميّة، كما أن هناك قطاعات أخرى ينبغي تمثيلها نقابيّا فيما يتعلّق ببنية السلطة الرابعة، والمقصود هنا هم المصوّرون الصحافيّون، والفنيّون، وعمّال الطباعة، وكلّ من يسهم في بناء قطاع الإعلام، والذين لا يمثّلهم -حتى اليوم- سوى همومهم وأحلامهم.
ولإثبات وجهة النظر المطروحة هنا، والتي تصرّ على اعتبار أن تغيير البيئة التشريعيّة واستيراد القوانين الغربيّة، لا يكفيان للارتقاء بواقع الحريّات الصحفيّة في العالم العربي، قد يكون من المفيد النظر إلى تجارب "الآخر"، وطرح التساؤل التالي: هل تضمن القوانين الغربيّة للصحافيين نشر كلّ ما يريدون ؟
لنعد إلى ألمانيا مجدّدا، فتقدّم صحافتها في معركة مواجهة قانون المصادر السريّة، لم يكن نتيجة تغيير هذا القانون الذي مازل فاعلا حتّى اليوم، وإنّما كان نتيجة تطوّر وتمكين الجسم الصحافي من انتزاع مطالبه.
ومن الأمثلة التي يمكن طرحها لقياس إرادة الصحافيين في ذلك البلد، لا ضير من نشر "الدردشة" التي دارت مع الصحافي فريدرك أوبرماير (Frederik Obermaier) العامل في جريدة (Suddeutsche Zeitung) الألمانيّة، والتي أشار فيها إلى حكاية انتصر فيها اتّحاد الصحافيين لأحد أعضائه، والذي تعرّض لتفتيش مكتبه من قبل جهاز المخابرات بعد نشر معلومات وصفت بالسريّة، في محاولة مخابراتيّة لمعرفة مصدر الصحافي، حيث بادر الاتحاد إلى رفع دعوى قضائيّة ضدّ المخابرات الألمانيّة، ونتيجة للأعراف السياسيّة التي ناضل الشعب طويلا من أجل إرسائها، ربح الاتحاد تلك القضيّة.
ويورد فريدرك، الذي جاء إلى عمّان للمشاركة في مؤتمرّ تنظّمه مؤسّسة "أريج" للصحافة الاستقصائيّة، مثالا آخرا، يتخلّص بنجاح رئيس تحرير مؤسّسته الصحفيّة في إرغام المخابرات الألمانيّة على التوقّف عن مراقبته، نتيجة قوّة الاتّحاد في بلاده.
وحكاية أخرى يوردها هذا الصحافي الشاب، حول إصرار الصحافيّين على انتزاع حقّ الحصول على المعلومة، تتلخّص بنجاح اثنين من زملائه في نيل إنصاف القضاء ضدّ وزير الداخليّة الألماني، إثر امتناعه عن منحهما معلومات تتعلّق بالألعاب الأولومبيّة.
الحكاية إذا لا تقتصر على التشريعات والبيئة القانونيّة، بقدر ما ترتبط بتوحّد الجسم الصحافي ودفاعه عن حقوقه، وحتى تنظيم المهنة يحدّده هذا الجسم، الذي نجح في بناء مجلس يضع الضوابط الأخلاقيّة للعمل الصحفي، دون انتظار تحديد ذلك من قبل السلطة الحاكمة.
التشريعات الألمانيّة غير كفيلة وحدها بضمان حريّة الإعلام، وخير دليل على ذلك ما أفاتد به الصحافي الألماني ماثياس كروبا، (Matthias Krupa) العامل في صحيفة (Die Zeit) الليبراليّة، والذي أكّد خلال لقائه في بروكسيل أن تحديد ماهيّة "المصادر السريّة" مسألة تخضع لترجمة القضاء، وكذلك هو الأمر بالنسبة لـ "خطاب الكراهية"، الذي يتضمنه القانون في مختلف دول الاتّحاد الأوروبي، ليمنع الصحافيين من تجاوز ما يمكن اعتباره "خطوطا حمراء".
ولكن في نهاية الأمر، لا يستطيع الصحافي في ألمانيا نشر كلّ ما يريد، فعلى سبيل المثال، يقول كروبا، لا يمكنك نشر مادّة تتضمّن إنكار "الهولوكوست"، وليس وحده القانون ما يمنع ذلك، بل لا يوجد صحافي واحد قد يفكّر في نشر مثل هذا الأمر.
ورغم هذا.. لا تستطيع السلطات الألمانيّة استثمار ما تريد من الأنظمة والقوانين لمصادرة حريّة الصحافة.. لماذا ؟ لأن الأعراف السياسيّة التي كرّسها نضال طويل الأمد تحول دون ذلك، والمسألة هنا لا يمكن حصرها بـ "تطوير" البيئة التشريعيّة، التي يمكن الإدراك من خلال حديث كروبا بأنّها غير كافية لضمان هذه الحريّة.
هي ليست القوانين إذا ما يضمن حريّة الصحافة هناك.. ولكن إرادة الناس التي أفضت إلى تأسيس اتّحادات نقابيّة نجحت في لعب دور الندّ بمواجهة السلطة.
كما أن الاتّحاد الأوروبي لا يستطيع حمل حتّى الدول الأعضاء على تطبيق قوانينه المتعلّقة بـ "الديمقراطيّة" و"حقوق الإنسان"، بدليل ما أقرّه ديفيد فريجر، (David Friggieri) المسؤول في مديريّة العدالة العامّة في مفوّضيّة الاتحاد الأوروبي في بروكسل، والذي لم يتردّد في البوح بوجود "مشاكل" تتّصل بحريّة الإعلام المرأي والمسموع في بعض الدول الأعضاء، ما يدلّل على أن انتظار الاتّحاد الأوروبي لتطوير البيئة التشريعيّة بما يضمن حريّة الصحافة في العالم العربي، مسألة لا يمكن اعتبارها مجدية بأيّ حال من الأحوال.
ومن جهة أخرى فإن تعريف "ألإرهاب" وتحديد الخطوط الفاصلة بين حريّة الرأي والتعبير وبين "خطاب الكراهية"، واللذان يعتبران من مهامّ تلك المديريّة، غير كافيان لضمان الحريّات الإعلاميّة في القارّة العجوز، بسبب البيروقراطيّة القاتلة الناجمة عن صراعات مختلف مؤسّسات الاتّحاد الأوروبي، وتعقيدات الإجراءات القضائيّة التي تفرض إنفاق مبالغ ماليّة طائلة على من يتعرّض للغبن، لانتزاع حقّه.. ولكن الضامن الحقيقي لهذه الحريّات كما تحاول هذه السطور إثباته، هو الجسم الصحفي والأعراف السياسيّة التي لم تتكرّس بين ليلة وضحاها، وإنّما من خلال نضالات لا مجال لحصرها هنا.
والخلاصة.. أن مقاربة الاتحاد الأوروبي فيما يتعلّق بتطوير التشريعات الأردنيّة، بما يضمن حريّة الصحافة و"حقوق الإنسان"، لا يمكن لها تغيير هذا الواقع الذي نعيشه منذ أكثر من نصف قرن، وإنّما المطلوب هو بناء اتحاد حقيقيّ يمثّل مختلف العاملين في مهنة المتاعب ويعبّر عن آمالهم وطموحاتهم، وكذلك هو الأمر بالنسبة لمختلف القطاعات الإنتاجيّة والمجتمعيّة الأخرى.. ولا ضير من الاستفادة من تجارب الغير.. ولكن في النهاية "لا يحكّ جلدك.. إلا ظفرك".
المشكلة لدى هذه الأجهزة المخابراتيّة أنّها عاجزة عن التعامل مع قطاع الإعلام على النحو الذي تتعامل فيه مخابراتنا العربيّة مع هذا القطاع، والسبب لا يتعلّق بالقوانين والتشريعات الغربيّة، فحتّى تلك القوانين تتضمّن ثغرات تمكّن السلطات من فرض هيمنتها على الإعلام، وإنّما تكمن مشكلة المخابرات الغربيّة بأن عليها مواجهة الأعراف السياسيّة، والتي لا تتيح لها التصرّف كما تشاء مع صاحبة الجلالة "الصحافة".
وعودة إلى ألمانيا وتوقّعات وسائل الإعلام فيها، فإن تصريحات أحد رؤساء الوكالات المخابراتيّة الأسبوع الماضي، والتي تعهّد فيها بأن يكون أكثر انفتاحاً على وسائل الإعلام في بلاده، فيما يتصل بحقّ الحصول على المعلومة، يمكن اعتبارها مؤشّرا على انتهاء حقبة ما يمكن تسميته بالتمسّك بذريعة المصادر السريّة لحجب المعلومة، حيث اضطر هذا المسؤول في المخابرات الغربيّة على الإدلاء بتلك التصريحات، بعد أن اعترف بحقيقة ما نشرته بعض وسائل الإعلام الألمانيّة عن المخافر السريّة، وهو ما كانت قد أنكرته المخابرات هناك، قبل أن تتفاجأ بنشر تلك المعلومات على موقع "الويكيبيديا"، لتكون متاحة أمام الجميع.
المخابرات الألمانيّة لم تلجأ إلى تهديد الصحافيين أو اعتقالهم بأمر من محكمة أمن الدولة، رغم إمكانيّة اللجوء إلى مثل هذه الألعاب عبر قانون "المصادر السريّة"، ولكن تلك المخابرات لم تجد أمامها سوى التعهّد لوسائل الإعلام في بلادها بأن تكون أكثر انفتاحاً.
في تلك الحكاية تكمن الثغرة التي تجاهلها الساسة الأوروبيّون –عمدا أو عن حسن نيّة- فيما يتعلّق بمطالبهم بالارتقاء بالحريّات الإعلاميّة في دول الجوار، وفي الأردن على وجه التحديد.
هؤلاء الساسة مازالوا يفكّرون بذات العقليّة الكولونياليّة، معتبرين أنفسهم "المعلّم المتحضّر" الذي يسعى إلى "تطوير" التشريعات والقوانين في المنطقة العربيّة، بما يضمن "حقوق الإنسان" والتقدّم نحو "الديمقراطيّة".
ومن هنا انطلق المسؤولون في قسم الخدمات الخارجيّة الأوروبيّة، الـ(E.E.A.S) في رسم مسار مقاربتهم، التي تعتبر أن تطوير البيئة التشريعيّة فيما يتعلّق بحريّة الصحافة في الأردن، إلى جانب دعم الإعلام تقنيّا وماليّا، من شأنهما الارتقاء بوسائل الإعلام لدرجة تمكّنها من لعب الدور الحقيقي الذي يترجم مصطلح "السلطة الرابعة" على نحو واقعيّ وملموس.
ولكن، هل تكمن المشكلة حقّا في القوانين والتشريعات الناظمة للعمل الصحفي ؟
قانون حقّ الحصول على المعلومة –على سبيل المثال- تتضمّنه التشريعات الأردنيّة، وحتّى قانون المطبوعات والنشر العرفي يحرّم اعتقال الصحافيين دون محاكمة –وإن كان قانون العقوبات يجيز ذلك- غير أن المشكلة الحقيقيّة لا تتعلّق بسنّ القوانين والتشريعات، كما أنّها لا تتصل بهذا التناقض الغريب بين القوانين، وإنّما تكمن المعضلة بالعقليّة التي تدير شؤون البلاد، والتي تسنّ التشريعات المنسجمة مع المزاج الغربي لنيل المزيد من المساعدات الماليّة، مقابل ترجمة هذه التشريعات وفقاً للمزاج الاستبدادي المهيمن على المنطقة العربيّة منذ أكثر من نصف قرن.. هذا من جهة.
ولا ننسى –من جهة أخرى- أن استيراد التجارب الخارجيّة أثبت فشله طيلة السبعين سنة الماضية، والتي شهدت محاولات لا يحصى عددها، لـ "الارتقاء" بالواقع العربي إلى ما اعتبره البعض "النموذج" الغربي.
إذا.. ما هو الحلّ ؟
قبل الإجابة على هذا التساؤول علينا التوجّه لأنفسنا بالسؤال الأهمّ.. ماذا نريد؟؟
إذا كانت الحريّة هي القدر الذي نودّ اختياره للارتقاء بواقعنا وتحديد مسار مستقبلنا، فعلينا قبل أيّ شيء آخر، الاعتماد على أنفسنا، ولا يضيرنا الاستفادة من تجارب الغير، ولكن لا ينبغي أن نترجم هذه الاستفادة بعمليّة "الاستيراد"، ولا يكفي هنا تغيير البيئة التشريعيّة بما ينسجم مع القضايا الحقوقيّة التي تشكّل محور البروباغاندا الغربيّة.. وإنّما علينا البدء من الصفر.. من علاقة الشعب بالدولة، وعلاقة مؤسّسات المجتمع المدني ووسائل الإعلام بالسلطة الحاكمة، ومن ثمّ يمكننا الضغط لتهيئة البيئة التشريعيّة المنسجمة مع واقعنا وأهدافنا.. وهذه مجرّد وجهة نظر.
ولتحقيق هذا الأمر ينبغي قبل أي شيء آخر الارتقاء بالأدوات، والتي تتلخّص –فيما يتعلّق بالإعلام- بالجهة النقابيّة التي يفترض أن تمثّل هذا القطاع.
نقابة الصحافيين لا يجوز أن تبقى عضويّتها محصورة على العاملين في المؤسّسات الإعلاميّة الرسميّة وشبه الرسميّة، كما أن هناك قطاعات أخرى ينبغي تمثيلها نقابيّا فيما يتعلّق ببنية السلطة الرابعة، والمقصود هنا هم المصوّرون الصحافيّون، والفنيّون، وعمّال الطباعة، وكلّ من يسهم في بناء قطاع الإعلام، والذين لا يمثّلهم -حتى اليوم- سوى همومهم وأحلامهم.
ولإثبات وجهة النظر المطروحة هنا، والتي تصرّ على اعتبار أن تغيير البيئة التشريعيّة واستيراد القوانين الغربيّة، لا يكفيان للارتقاء بواقع الحريّات الصحفيّة في العالم العربي، قد يكون من المفيد النظر إلى تجارب "الآخر"، وطرح التساؤل التالي: هل تضمن القوانين الغربيّة للصحافيين نشر كلّ ما يريدون ؟
لنعد إلى ألمانيا مجدّدا، فتقدّم صحافتها في معركة مواجهة قانون المصادر السريّة، لم يكن نتيجة تغيير هذا القانون الذي مازل فاعلا حتّى اليوم، وإنّما كان نتيجة تطوّر وتمكين الجسم الصحافي من انتزاع مطالبه.
ومن الأمثلة التي يمكن طرحها لقياس إرادة الصحافيين في ذلك البلد، لا ضير من نشر "الدردشة" التي دارت مع الصحافي فريدرك أوبرماير (Frederik Obermaier) العامل في جريدة (Suddeutsche Zeitung) الألمانيّة، والتي أشار فيها إلى حكاية انتصر فيها اتّحاد الصحافيين لأحد أعضائه، والذي تعرّض لتفتيش مكتبه من قبل جهاز المخابرات بعد نشر معلومات وصفت بالسريّة، في محاولة مخابراتيّة لمعرفة مصدر الصحافي، حيث بادر الاتحاد إلى رفع دعوى قضائيّة ضدّ المخابرات الألمانيّة، ونتيجة للأعراف السياسيّة التي ناضل الشعب طويلا من أجل إرسائها، ربح الاتحاد تلك القضيّة.
ويورد فريدرك، الذي جاء إلى عمّان للمشاركة في مؤتمرّ تنظّمه مؤسّسة "أريج" للصحافة الاستقصائيّة، مثالا آخرا، يتخلّص بنجاح رئيس تحرير مؤسّسته الصحفيّة في إرغام المخابرات الألمانيّة على التوقّف عن مراقبته، نتيجة قوّة الاتّحاد في بلاده.
وحكاية أخرى يوردها هذا الصحافي الشاب، حول إصرار الصحافيّين على انتزاع حقّ الحصول على المعلومة، تتلخّص بنجاح اثنين من زملائه في نيل إنصاف القضاء ضدّ وزير الداخليّة الألماني، إثر امتناعه عن منحهما معلومات تتعلّق بالألعاب الأولومبيّة.
الحكاية إذا لا تقتصر على التشريعات والبيئة القانونيّة، بقدر ما ترتبط بتوحّد الجسم الصحافي ودفاعه عن حقوقه، وحتى تنظيم المهنة يحدّده هذا الجسم، الذي نجح في بناء مجلس يضع الضوابط الأخلاقيّة للعمل الصحفي، دون انتظار تحديد ذلك من قبل السلطة الحاكمة.
التشريعات الألمانيّة غير كفيلة وحدها بضمان حريّة الإعلام، وخير دليل على ذلك ما أفاتد به الصحافي الألماني ماثياس كروبا، (Matthias Krupa) العامل في صحيفة (Die Zeit) الليبراليّة، والذي أكّد خلال لقائه في بروكسيل أن تحديد ماهيّة "المصادر السريّة" مسألة تخضع لترجمة القضاء، وكذلك هو الأمر بالنسبة لـ "خطاب الكراهية"، الذي يتضمنه القانون في مختلف دول الاتّحاد الأوروبي، ليمنع الصحافيين من تجاوز ما يمكن اعتباره "خطوطا حمراء".
ولكن في نهاية الأمر، لا يستطيع الصحافي في ألمانيا نشر كلّ ما يريد، فعلى سبيل المثال، يقول كروبا، لا يمكنك نشر مادّة تتضمّن إنكار "الهولوكوست"، وليس وحده القانون ما يمنع ذلك، بل لا يوجد صحافي واحد قد يفكّر في نشر مثل هذا الأمر.
ورغم هذا.. لا تستطيع السلطات الألمانيّة استثمار ما تريد من الأنظمة والقوانين لمصادرة حريّة الصحافة.. لماذا ؟ لأن الأعراف السياسيّة التي كرّسها نضال طويل الأمد تحول دون ذلك، والمسألة هنا لا يمكن حصرها بـ "تطوير" البيئة التشريعيّة، التي يمكن الإدراك من خلال حديث كروبا بأنّها غير كافية لضمان هذه الحريّة.
هي ليست القوانين إذا ما يضمن حريّة الصحافة هناك.. ولكن إرادة الناس التي أفضت إلى تأسيس اتّحادات نقابيّة نجحت في لعب دور الندّ بمواجهة السلطة.
كما أن الاتّحاد الأوروبي لا يستطيع حمل حتّى الدول الأعضاء على تطبيق قوانينه المتعلّقة بـ "الديمقراطيّة" و"حقوق الإنسان"، بدليل ما أقرّه ديفيد فريجر، (David Friggieri) المسؤول في مديريّة العدالة العامّة في مفوّضيّة الاتحاد الأوروبي في بروكسل، والذي لم يتردّد في البوح بوجود "مشاكل" تتّصل بحريّة الإعلام المرأي والمسموع في بعض الدول الأعضاء، ما يدلّل على أن انتظار الاتّحاد الأوروبي لتطوير البيئة التشريعيّة بما يضمن حريّة الصحافة في العالم العربي، مسألة لا يمكن اعتبارها مجدية بأيّ حال من الأحوال.
ومن جهة أخرى فإن تعريف "ألإرهاب" وتحديد الخطوط الفاصلة بين حريّة الرأي والتعبير وبين "خطاب الكراهية"، واللذان يعتبران من مهامّ تلك المديريّة، غير كافيان لضمان الحريّات الإعلاميّة في القارّة العجوز، بسبب البيروقراطيّة القاتلة الناجمة عن صراعات مختلف مؤسّسات الاتّحاد الأوروبي، وتعقيدات الإجراءات القضائيّة التي تفرض إنفاق مبالغ ماليّة طائلة على من يتعرّض للغبن، لانتزاع حقّه.. ولكن الضامن الحقيقي لهذه الحريّات كما تحاول هذه السطور إثباته، هو الجسم الصحفي والأعراف السياسيّة التي لم تتكرّس بين ليلة وضحاها، وإنّما من خلال نضالات لا مجال لحصرها هنا.
والخلاصة.. أن مقاربة الاتحاد الأوروبي فيما يتعلّق بتطوير التشريعات الأردنيّة، بما يضمن حريّة الصحافة و"حقوق الإنسان"، لا يمكن لها تغيير هذا الواقع الذي نعيشه منذ أكثر من نصف قرن، وإنّما المطلوب هو بناء اتحاد حقيقيّ يمثّل مختلف العاملين في مهنة المتاعب ويعبّر عن آمالهم وطموحاتهم، وكذلك هو الأمر بالنسبة لمختلف القطاعات الإنتاجيّة والمجتمعيّة الأخرى.. ولا ضير من الاستفادة من تجارب الغير.. ولكن في النهاية "لا يحكّ جلدك.. إلا ظفرك".