عن لقاءِ رُفقاء السّلاح مع الملِك..
أزهر الطوالبة
جو 24 :
كان اللِّقاء بين الملك ورفقاء السلاح واحدًا من تلك اللَّحظات النادرة التي يشعُر فيها الأردنيّ أنّ صورة الوطن، بكلّ ما فيها من إرث وتعب، عادت لتظهر على حقيقتها: هادئة، صادقة، نقية من المزايدات. إنّها لحظةُ فتحَت النّافذة على أُردنٍّ آخر، أردنٍّ يعرِفه أبناء الميدان لا أبناء الياقات المُذهّبة..
في اللّقاء، لم يكن الحديث رسميًّا ولا مرتّبًا، بل عفويًّا إلى حدٍّ أعاد شيئًا من حرارة السنوات الماضية، وأعاد للأذهان رجالًا حملوا الوطن في حقيبة ظهورهم، لا في خطاباتهم.
في كلام الملك عن وائل الذي كان "يفلّ من القفز"، لا تسمع مجرّد نُكتة عابرة، بل تستعيد زمنًا كاملًا..ذلك الزمن الذي كان فيه التّدريب العسكريّ ليس مجرّد واجب، بل "مدرسة رجولة" تُصفّي النُّفوس قبل أن تُقوّي الأجساد. كان الرجل الذي يقفز، ويسقُط، ثم ينهض، أكثر قُربًا لمعنى الوطن من ألف محاضرٍ يوزّع شهادات الوطنيّة من وراء المكاتب.
ثم تأتي الإشارة إلى ذاك الذي علّم الملك كيف يُحدّد اتجاه الريح… وهنا تدخُل إلى عُمقِ الرمز:
فالريح الأردنيّة في هذه الأيام تُنتزع من اتّجاهها، تُبعثرها أصابع المُتسلقين الذين لا يعرفونَ شيئًا عن برد الفجر في الميدان، ولا عن ليلِ الدوريات الطويلة، ولا عن الأوامر التي تُنفّذ دون تردُّد ؛ لأنّ الوطن يحتاجها.
هؤلاء المتسلِّقون يريدون للوطن أن يدور حولهم، لا أن يدوروا هم حول الوطن. يسعون لمقاعدٍ تُبنى على الصّوت العالي، لا على السّلوك؛ وعلى الصور، لا على الجُهد؛ وعلى التنظير، لا على التّجربة.
كلّ شيءٍ عندهم قابل للبيع: المواقف، المبادئ، وحتى الشعارات التي يرفعونها ليعلّقوا عليها أسماءهم.
أمّا الذين يتحدّث عنهم الملك، فهم أولئك الذين يعرفون اتجاه الريح الحقيقي:
يعرفونه من خبرتهم، من تعبهم، من تعلّقهم بالتُّراب، من صواريخ التدريب، ومن الركض وراء الطوارئ، ومن نوبات الحراسة الطويلة التي لا يراها أحد...هؤلاء هم الذين حَمَوا الأردن، لا بالكلام، بل بالفعل.
وفي هذا كلّه، يجد ابنُ رجلٍ خدم في الأمن العام ثلاثين عامًا، دونَ حظوةٍ ولا منصبٍ كبير، لنفسه مكانًا واضحًا في المشهد. فهو يعرف أنّ الذين حفظوا البلد لم يكونوا يومًا نجوم التصريحات ولا أبطال الإطلالات الإعلامية...كانوا رجالًا يشبهون والده:
يصحونَ قبل الجميع، ويعودون بعد الجميع، ينامون على رائحة الغُبار، ويستيقظونَ على صوت النداء… دون أن ينتظروا شكرًا أو مكافأة أو مقعدًا في الصفوف الأولى.
وها هو الملك، في لقاءٍ بسيط، يعيد الاعتبار لهؤلاء:
للوطن الذي يحمله الرجال الذين مرّت عليهم عشرات السنوات دون أن يسألوا: ماذا سنأخذ؟ بل دون أن يعرفوا أصلًا كيف يُطرح هذا السؤال.
اللقاء لم يكن حديثًا عابرًا، بل كانَ رسالة تصويب:
أنّ المؤسسات العسكرية والأمنيّة هي صمّام الأمان الحقيقي، وأنّ غيرها -ممن انشغل بالمنفعة والمناصب والظهور- لا يملك لا الإرث ولا الخبرة ولا القدرة على حمل البلاد في اللحظات الصعبة.
وإذا كان الوطن يفقد ريحه اليوم، فإنّ الريح ستعود حين يستعيد الأردنيون بوصلتهم، ويعرفون أنّ البلد لم يُبنَ على يد المتسلقين، بل على يد رجالٍ تعلّموا الاتجاه الصحيح من رفاق السلاح…
وتعلّموه لأنّهم أحبّوا الأردن أكثر ممّا أحبّوا أنفسهم.
هذا هو جوهر اللقاء، وهذا هو ما يراه الأردنيّ "القُحّ" حين يستمع إلى كلامٍ يُقال بلا أقنعة: أنّ البلد ما يزال بخير…
لكن الخطر الحقيقي، هو أن يُترك صوته بيد من لا يعرفونَ كيف تهبّ الريح، ولا كيف تُحمى الأوطان.








