الهوة بين الشرفاء واللصوص
الهوة الطبيعية بين الاغنياء والفقراء موجودة منذ الازل، لكنها كانت ضمن السياق الطبيعي للتطور التاريخي وتكاد لا تكون محسوسة ، لكن ومنذ هجوم الليبراليين الجدد وهيمنتهم على معظم مفاصل الدولة وتحكمهم بالقرارات الاقتصادية والسيادية اصبحت الهوة عميقة لا تدركها الابصار، وهنا لا اقصد من حباهم الله بفضله وعملوا بجد واخلاص وعظموا ثرواتهم وساهموا في بناء الدولة، فقد عمد هؤلاء الليبراليون على هدم اركان الدولة التي هي اصلا كانت مهيأة لذلك في ظل تقييد الحريات وغياب الديمقراطية وضعف الرقابة على الاموال العامة، فهم لا يؤمنون بالدولة القوية التي تسيطر وتوجه حركة الاقتصاد حيث لا يكون لهم وجود وحرية الحركة والتصرف في ظل سيطرة ورقابة وتحكم الدولة القوية على حركة الاموال والبورصات والاسهم والسندات المالية...الخ، فحاضنتهم الطبيعية هي الدولة الضعيفة غير القادرة على مواجهة قوتهم المتمثلة برأس المال وتحالفهم مع اركان السلطة المتمثلة بدولة العلاقات العائلية.
الدولة القوية بمفهومها العام هي دولة القانون والحريات، الدولة التي تبني اقتصادها من خلال رعايتها وتعظيمها لقطاعاتها الانتاجية الزراعية والصناعية والسياحية والتجارية...الخ، دولة المشاريع المدرة للدخل والمولدة لمشاريع وفرص عمل لقوى العمل الوطنية، هي الدولة التي ترعى وتحافظ على الطبقة الوسطى كمحرك رئيس لعجلة الاقتصاد الوطني، فهذه الدولة بهذا المفهوم لا تناسبهم؟، وما يناسبهم هو اقتصاد السوق المتحرر من رقابة الدولة الضعيفة؛ حيث يستطيعون بناء شركاتهم العملاقة الوهمية بموجب سندات واوراق ومحافظ مالية، يناسبهم المتاجرة والمقامرة والمضاربة بالاسهم والبورصات ... يناسبهم تحرير رأس المال من اية قيود ضريبية وتنقلها عبر الحدود بلا شرط او قيد لتحقيق اقصى ربح في اقصر وقت، لقد أشاعوا خلال العقدين الماضيين وعبر كل المحافل الاعلامية بأن اقتصاد السوق هو المنقذ الوحيد لانعاش الاقتصاد الوطني وهذا يتطلب خصخصة كل مرافق الدولة مع تخفيض الانفاق الحكومي الى الحد الادنى، وهكذا بيعت الشركات الانتاجية الحكومية والعقارات العائدة للدولة مع تسريح للعاملين فيها، واستحدثت مؤسسات مستقلة لإدارة مرحلة اقتصاد السوق "مؤسسات دولة العلاقات العائلية" ورافق ذلك تحرير للاسعار مع رفع لمعدلات الضرائب مع سن تشريعات تخدم راس المال فقط ولا تخدم الاقتصاد الوطني تمثلت بالاعفاءات الضريبية وتسهيلات أئتمانية وأقتراضية وخدمات البنى التحتية ...الخ، فهل انتعش الاقتصاد الوطني ؟
على العكس من ذلك فمؤشرات نسب البطالة بارتفاع، الطبقة الوسطى ذابت وانصهرت مع الطبقة الدنيا وشكلوا طبقة الفقراء، انتشار واسع ومرعب للمخدرات وزيادة معدلات الجريمة ، ارتفاع معدلات بيع العقارات المملوكة للشرق اردنيين، القطاع الزراعي في غرف الانعاش، القطاع الصناعي يترنح، القطاع السياحي مهدد بالظروف الداخلية والخارجية، والحكومة تواصل الاقتراض الداخلي والخارجي وهي عاجزة الان وستعجز أكثر مستقبلا من خدمة الديون وسترضخ مستقبلا لاملاءات صندوق النقد الدولي بالتوقيع على تنازلات سيادية كنا نسميها خطوطا حمراء .
لقد نجح الليبراليون الجدد بتحويل مسيرة الحياة الاقتصادية المجبولة بتراب هذا الوطن الى اقتصاد الاسهم والشركات الوهمية "الاقتصاد الهش" بالنسبة للدولة والاقتصاد المربح لهم وحولوا السياسة الى فريسة تتلقفها ايادي ومجموعات تدافع عن مصالحهم الخاصة بما تمتلك من نفوذ وجبروت ونجحوا كذلك في تدجين غالبية اعضاء مجلس شعبنا واصبح هذا المجلس دمية ناطقة بخطابات رنانة وكلمات معسولة تدغدغ احلامنا ومشاعرنا .
اللصوص يسكنون في ارقى الاحياء وفي افخر الفلل ويركبون افخم السيارات ولا يأكلون مما تنتجه هذه الارض الطهور ومياه شربهم مستوردة ...اما نحن الفقراء ماليا الاغنياء بقيمنا واخلاقنا وعفة نفوسنا فإننا نسكن في بوادي وارياف وقرى هذا الوطن...وطن النماء والانتماء...ولدنا فيه ونحيا فيه وسنموت وندفن فيه....اما هم فعند حدسهم بأدنى خطر "اقصد هنا خطر مالي" فلن يتوانوا للحظة لبيع كل ما يملكون ويلتحقوا بأموالنا التي نهبوها من عوائد بيعهم لمقدراتنا والتي اصلا هي مهربة في الخارج.
وسؤالي الاخير: كم من عائلة اردنية يلزم ان تموت جوعا لتسافر احداهن الى ارقى مراكز التجميل العالمية لتشفط اموالنا التي تحولت الى دهنيات في اردافها...او لتشتري فستانا من تصميم ارقى المصممين العالميين لتلبسه لمرة واحدة في حفلة ما؟