النتائج الممكنة لمؤتمر جنيف2 والموقف منها
سلامة كيلة
جو 24 : ماذا يمكن أن ينتج عن مؤتمر جنيف2؟ ربما هذا هو السؤال الأكثر ترددا هذه الأيام. في هذا المجال لا بد من التمييز بين الموقف وسياق الواقع الموضوعي، أي بين ما نريد وبين ما يمكن أن يجري في الواقع.
وبالتالي علينا أن نتلمس هل أن ما يمكن أن يجري سيكون مفيدا في شكل ما أو على العكس من ذلك سيكون ضد الثورة؟
هذه النظرة يمكن أن تساعد في الخروج من منطق حدي يقود إلى اتخاذ مواقف تدعم أو ترفض نتيجة تلمس بعض الزوايا، ولمس بعض النزعات هنا أو هناك. فالمسألة أعقد من أن نكون مع أو ضد جنيف2، حيث لا بد أولا من فهم ما يريد الشعب بدقة، ومن ثم فهم الواقع القائم، وتلمس كل مشكلاته، وبالتالي رؤية الممكن على ضوء ذلك، ومن ثم تحديد هل أنه يخدم الثورة أو يلحق الضرر بها؟
لهذا فإن الأمر لا يتعلق بموقف "ذاتي"، بل لا بد من فهم مجريات الواقع بعيدا عن تحيزاتنا ومواقفنا ومطالبنا، لكي يكون الموقف الممكن مطابقا لممكنات الواقع، لكن في سياق يخدم الثورة ذاتها، وليس من أجل تصفيتها.
من هذا المنظور يمكن التحديد أولا بأن ما يمكن أن يجري في جنيف2، إذا نجح تماما وأطيح ببشار الأسد والفئة "العائلية" المسيطرة على السلطة، لن يحقق المطالب التي ثار الشعب من أجل تحقيقها، لا فيما يخص الدولة المدنية (ولن أقول العلمانية لأن النخب السورية كانت أهزل من أن تطرحها، بل طالبت بدولة ديمقراطية)، ولا بحل مشكلات البطالة (30% من القوى العاملة) والفقر (نسبة مشابهة) والتهميش وانهيار التعليم والصحة.
فالطرف السلطوي المشارك في الحل، والمعارضة السورية كلها ليس لديها بديل عن الاقتصاد الحر والسياسات الليبرالية، ولقد كان الإفقار والتهميش والبطالة كلها نتاج هذه السياسات، وإعادة إنتاجها سوف تزيد من البطالة والفقر والتهميش.
هذا المستوى لا خلاف عليه بين السلطة والمعارضة، ويكمن الخلاف في من يحتكر السيطرة على الاقتصاد، هل آل مخلوف والأسد وشاليش (بالتحالف مع البرجوازية التجارية الشامية الحلبية)، أو ينتهي احتكار هؤلاء لمصلحة احتكاري جديد (ربما البرجوازية ذاتها، مع بعض رجال الأعمال المنخرطين في المعارضة الآن، لأن السيطرة السابقة كانت تهمش دورهم)؟
بالتالي فإن ما يجري هو إعادة إنتاج للسلطة كبنية طبقية، أي كاقتصاد ليبرالي مهيمن عليه من أقلية تحتكر الثروة.
هذا في المستوى المحلي، أما انطلاقا من فاعلية القوى الدولية، التي باتت تحدد مسار الحل، فإن الأمر بات في مصلحة المافيا الروسية التي أصبحت موكّلة باحتكار "السوق السوري"، وبهذا سوف يستمر "النهب الإمبريالي" لكن مع تحوّل المركز المهيمن.
وإذا كان هناك صراع على الهيمنة في السنوات السابقة بين كل من تركيا وفرنسا وقطر، وإيران، في ظل ابتعاد أميركا وميلها لفرض عقوبات على السلطة السورية، وحيث حصلت كل من تركيا وقطر على موقع مميز، فإن المرحلة القادمة سوف تشهد سيطرة روسية كاملة، ربما مع هوامش لإيران وتركيا، وبمشاركة صينية.
وهذا يعني استحكام السيطرة الإمبريالية، وتعميق النهب، خصوصا ونحن نشهد ضرورة إعادة إعمار ما تهدّم بفعل وحشية السلطة، وهذا الأمر سوف يراكم مديونية عالية على الدولة، ويجعلها تخضع أكثر فأكثر للنهب الإمبريالي.
هذا هو جوهر الحل الذي يمكن أن يفرض من قبل كل من أميركا وروسيا، وهو الحل الذي لا يحقق مطالب الشعب، وربما يؤسس ضرورة لقدر من الانفراج "الديمقراطي" نتيجة الحاجة لقبول قوى جديدة في السلطة من أجل "إنهاء الثورة"، وكضرورة فرضتها مطالب الشعب (والنخب خصوصا) بالحرية.
وبالتالي ربما يخلق وضعا مشابها لأوضاع تونس ومصر من حيث "المتنفس الديمقراطي" الذي يختزل بالانتخابات "الحرة"، وبعض الحرية للصحافة والأحزاب والنقابات وأشكال الاحتجاج الأخرى.
وهو الحل الذي سوف يجعل الشعب يستمر في الثورة، ويفرض التأكيد على ضرورة استمرار الصراع من أجل تحقيق مطالب الشعب، ولا بد من ملاحظة هنا هي أن كل الثورات العربية لم تستطع بعد تحقيق هذه المطالب، ولم يتغيّر سوى شكل السلطة.
ولذا فإن الحراكات الشعبية ما زالت مستمرة، رغم أن الثورات أطاحت برؤساء وحاشيتهم، هذا ناهيك عن كل الدمار والقتل الذي حدث في سوريا، ولهذا سيبدو أن ترحيل بشار الأسد مطلب ضروري في كل الأحوال.
انطلاقا من هذه الرؤية لا إمكانية للموافقة على الحل الذي يمكن أن يخرج عن جنيف2، سواء ظل الأسد (وهذا احتمال غير ممكن كما سنوضح) أو رحل. طبعا إلا من قبل الفئات التي سوف تستفيد منه عبر وصولها إلى السلطة.
وهذا الأمر يفرض البحث في وضع الآليات التي يستلزمها تطوير الثورة، وإعادة بنائها بما يجعلها تخرج من عفويتها وفوضويتها وسيطرة "العسكرة" عليها، ويؤسس لها قيادة فعلية.
لكن، لا بد من النظر الموضوعي لما يجري، ليس بالضرورة لتغيير الموقف الآنف الذكر، بل لكي يوضع في السياق الذي تجري فيه الأحداث، فيخرج عن أن يكون "موقفا أخلاقيا" أو "أيديولوجيا" أو دوغمائيا.
فالواقع يحتمل موقفا مركبا يتجاوز القبول أو الرفض (ويتضمن القبول والرفض معا)، لهذا لا بد من فهم الواقع كما هو من أجل الوصول إلى هذا الموقف المركب، فالموقف المبدئي المنطلق من معرفة النتائج سوف يوصل إلى الرفض حتما، لكن هل يتطابق هذا مع الواقع العياني؟ وإذا كان الحل مرفوضا، ما هي "قيمته" في الواقع القائم الآن؟
من هذا المنظور يمكن القول إن استعصاء بات يلف الصراع، وإن المسألة السورية باتت بقبضة القوى الدولية، روسيا وأميركا خصوصا، وإن الوضع الشعبي بات في غاية الصعوبة نتيجة أن عددا كبيرا صار لاجئا في الداخل أو في الدول المجاورة (تقريبا ثلث الشعب).
هذا فضلا عن أن نتيجة الوضع أدت إلى صعوبة شديدة في القدرة على العيش نتيجة انهيار الوضع الاقتصادي، وأسوأ نتيجة الحصار الشديد المفروض على مناطق عديدة، إضافة إلى الوضع الأمني السيئ في كل المناطق.
فالثورة تعسكرت بشكل عشوائي، وهو الأمر الذي أدى إلى "اختراقها" من جهة، وإلى الفشل في ممارسة سياسة عسكرية صحيحة في الصراع نتيجة غياب الخبرة لدى المقاتلين من جهة أخرى، وذلك نتيجة دخول قوى أصولية لا تفعل سوى التخريب والإرباك، وتحولها إلى قوة كبيرة بفعل الدعم المالي من قوى إقليمية.
وبالتالي فقد تشكل جسم عسكري مفكك ومتناقض، وذو طابع محلي، ونمت على هامشه قوى مخترقة أو عصابات عملت على استغلال الفوضى لكي تستفيد ماليا.
هذا الأمر يوضح أن الثورة بالقوى العسكرية التي تكونها، وبالخبرات والسياسات العسكرية، لا تستطيع إسقاط النظام، خصوصا أن الصراع انفتح ضد داعش (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، ويمكن أن ينفتح ضد جبهة النصرة والجبهة الإسلامية نتيجة الأجندات التي تمثلها وتؤدي إلى تخريب الثورة.
كما أن الثورة باتت بلا هدف واضح بعد أن تراجع شعار الحرية، وبدأت تطغى شعارات الدولة الإسلامية، وهو الأمر الذي أربك قطاعا كبيرا من الشعب الذي خاض الثورة وأراد تغيير النظام من أجل الحرية والعدالة.
في المقابل فقد ضعفت السلطة نتيجة تدمير جزء مهم من "بنيتها الصلبة"، وعجزها عن استخدام كل قطاعات الجيش نتيجة الاحتقان الذي تولّد لديها كونها جزءا من الشعب ومن المناطق التي ثارت ووُوجهت بالعنف الشديد. وباتت محمولة من قوى عسكرية خارجية، من إيران وحزب الله والقوى الطائفية العراقية، وبدعم عسكري روسي كبير. وبهذا أصبح صراع الشعب مع "قوى خارجية"، تريد الحفاظ على السلطة، وتعمل على منع سقوطها.
وهذا هو الاستعصاء القائم، الذي لا يبدو أن له حلا الآن، فالثورة ليس من السهولة إعادة بناء قواها بشكل مختلف في ظل سيطرة السلاح، وقوى السلطة بداعميها الإقليميين لم تستطع إنهاء الثورة والانتصار عليها، ولا يبدو أن هذا ممكنا في الفترة القادمة.
وما هو ظاهر هو تزايد القتل والدمار، والوحشية التي تزيد من فضح السلطة، في وضع باتت "المسألة السورية" تنعكس سلبا على "دول الجوار"، بالضبط نتيجة مشاركة قوى طائفية في قتل الشعب السوري دفاعا عن السلطة (لبنان والعراق)، أو نتيجة إرهاق وضع اللاجئين بعد أن تزايد عددهم كثيرا.
ما أشرت إليه يوصل إلى أن الشعب بات يمكن له أن يقبل بحل نتيجة "فقدان الهدف" من جهة، والوضع الشديد الصعوبة الذي يعيشه من جهة أخرى، وربما هذا ما أرادته بعض القوى الدولية (روسيا)، لكنه أيضا يوصل إلى أن استمرار السلطة بات مستحيلا، وأن استمرار الصراع سوف ينعكس سلبا على كل المحيط الإقليمي والوضع العالمي.
هذه المسألة ربما هي التي توحي بأن روسيا وأميركا باتتا معنيتين بفرض حل، فقد حققت أميركا تدمير سوريا (بقوى السلطة وبالسلاح الروسي)، وباتت معنية بإرضاء الروس عبر مساعدتهم على فرض سلطة "تابعة".
وروسيا باتت مرهقة في المسألة السورية وتريد ترتيب وضع سوريا بما يسمح لها بالتمدد في "الشرق الأوسط"، ولهذا بات مطلوبا "الوصول إلى حل".
لقد وصلت المسألة السورية إلى حالة من التخثر الذي قد يفضي إلى "الخروج عن السيطرة"، لهذا تقرر عقد جنيف2 بعد أن أصبح الأمر موثقا في قرار من مجلس الأمن الدولي.
والحل هو "خريطة الطريق" المقررة في جنيف1 من قبل مجموعة العمل الخاصة بسوريا، وخصوصا من قبل روسيا وأميركا. وتقوم على تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحية، لكي تعيد ترتيب وضع السلطة، والتحضير لكتابة دستور جديد وانتخابات رئاسية وبرلمانية، بعد أن يكون قد جرى وقف الصراع المسلح، وإطلاق سراح المعتقلين، وعودة المهجرين، والبدء بإعادة الإعمار.
لكن هذا الأمر يُواجه برفض من طرفين: بشار الأسد والدائرة المحيطة به، بالضبط لأن الحل ينهي سلطته، وبعض أطراف المعارضة التي أخرج بعضها من اللعبة. وتبقى المسألة التي تحتاج إلى حل هي كيفية إخراج بشار الأسد من السلطة لكي يتحقق الحل، وأيضا كيفية إنهاء وجود القوى الأصولية.
إذا تحقق هذا الحل فما هو مفيد فيه هو رحيل بشار الأسد والعائلة والمافيا المحيطة به من جهة، وإنهاء الصراع المسلح من جهة أخرى، وبالتالي وقف وحشية السلطة والانتقال إلى مرحلة ستشهد انفراجا ديمقراطيا.
إضافة إلى محاولة العودة لحياة طبيعية للشعب، المهجّر والمحاصر، وأيضا لباقي الشعب عموما الذي اختنق من توقف عجلة الاقتصاد والضغط الأمني الشديد والتعرّض للقتل اليومي. ومن ثم تهميش دور القوى الأصولية، لينفتح الأفق على إعادة بناء الصراع على أسس جديدة.
وهذا ربما يكون مفيدا لإعادة بناء الثورة عبر إعادة تفعيل المجتمع، وتنظيم الصراع وفق أهداف واضحة ورؤية تسمح بتطوير الصراع من أجل التغيير.
هذه المسائل لا تبدو ممكنة الآن في ظل الوحشية التي تمارسها السلطة، والتي سمحت بأن يصبح السلاح هو الرد الوحيد، ومن ثم توسع دور القوى الأصولية بفعل التأثير الإقليمي.
من هذا المنظور لا أرى أن السلطة الجديدة يمكن أن تحقق مطالب الشعب، إلا أن الحل يمكن أن يوفر فرصة لإعادة بناء الثورة من قبل القوى التي تريد تحقيق تلك المطالب بتحقيق التغيير الجذري في بنية الدولة ككل، لكنها في ذلك ستكون في تصادم مع السلطة الجديدة، وفي وضع أفضل من حالة الاستعصاء القائمة الآن.
(الجزيرة)
وبالتالي علينا أن نتلمس هل أن ما يمكن أن يجري سيكون مفيدا في شكل ما أو على العكس من ذلك سيكون ضد الثورة؟
هذه النظرة يمكن أن تساعد في الخروج من منطق حدي يقود إلى اتخاذ مواقف تدعم أو ترفض نتيجة تلمس بعض الزوايا، ولمس بعض النزعات هنا أو هناك. فالمسألة أعقد من أن نكون مع أو ضد جنيف2، حيث لا بد أولا من فهم ما يريد الشعب بدقة، ومن ثم فهم الواقع القائم، وتلمس كل مشكلاته، وبالتالي رؤية الممكن على ضوء ذلك، ومن ثم تحديد هل أنه يخدم الثورة أو يلحق الضرر بها؟
لهذا فإن الأمر لا يتعلق بموقف "ذاتي"، بل لا بد من فهم مجريات الواقع بعيدا عن تحيزاتنا ومواقفنا ومطالبنا، لكي يكون الموقف الممكن مطابقا لممكنات الواقع، لكن في سياق يخدم الثورة ذاتها، وليس من أجل تصفيتها.
من هذا المنظور يمكن التحديد أولا بأن ما يمكن أن يجري في جنيف2، إذا نجح تماما وأطيح ببشار الأسد والفئة "العائلية" المسيطرة على السلطة، لن يحقق المطالب التي ثار الشعب من أجل تحقيقها، لا فيما يخص الدولة المدنية (ولن أقول العلمانية لأن النخب السورية كانت أهزل من أن تطرحها، بل طالبت بدولة ديمقراطية)، ولا بحل مشكلات البطالة (30% من القوى العاملة) والفقر (نسبة مشابهة) والتهميش وانهيار التعليم والصحة.
فالطرف السلطوي المشارك في الحل، والمعارضة السورية كلها ليس لديها بديل عن الاقتصاد الحر والسياسات الليبرالية، ولقد كان الإفقار والتهميش والبطالة كلها نتاج هذه السياسات، وإعادة إنتاجها سوف تزيد من البطالة والفقر والتهميش.
هذا المستوى لا خلاف عليه بين السلطة والمعارضة، ويكمن الخلاف في من يحتكر السيطرة على الاقتصاد، هل آل مخلوف والأسد وشاليش (بالتحالف مع البرجوازية التجارية الشامية الحلبية)، أو ينتهي احتكار هؤلاء لمصلحة احتكاري جديد (ربما البرجوازية ذاتها، مع بعض رجال الأعمال المنخرطين في المعارضة الآن، لأن السيطرة السابقة كانت تهمش دورهم)؟
بالتالي فإن ما يجري هو إعادة إنتاج للسلطة كبنية طبقية، أي كاقتصاد ليبرالي مهيمن عليه من أقلية تحتكر الثروة.
هذا في المستوى المحلي، أما انطلاقا من فاعلية القوى الدولية، التي باتت تحدد مسار الحل، فإن الأمر بات في مصلحة المافيا الروسية التي أصبحت موكّلة باحتكار "السوق السوري"، وبهذا سوف يستمر "النهب الإمبريالي" لكن مع تحوّل المركز المهيمن.
وإذا كان هناك صراع على الهيمنة في السنوات السابقة بين كل من تركيا وفرنسا وقطر، وإيران، في ظل ابتعاد أميركا وميلها لفرض عقوبات على السلطة السورية، وحيث حصلت كل من تركيا وقطر على موقع مميز، فإن المرحلة القادمة سوف تشهد سيطرة روسية كاملة، ربما مع هوامش لإيران وتركيا، وبمشاركة صينية.
وهذا يعني استحكام السيطرة الإمبريالية، وتعميق النهب، خصوصا ونحن نشهد ضرورة إعادة إعمار ما تهدّم بفعل وحشية السلطة، وهذا الأمر سوف يراكم مديونية عالية على الدولة، ويجعلها تخضع أكثر فأكثر للنهب الإمبريالي.
هذا هو جوهر الحل الذي يمكن أن يفرض من قبل كل من أميركا وروسيا، وهو الحل الذي لا يحقق مطالب الشعب، وربما يؤسس ضرورة لقدر من الانفراج "الديمقراطي" نتيجة الحاجة لقبول قوى جديدة في السلطة من أجل "إنهاء الثورة"، وكضرورة فرضتها مطالب الشعب (والنخب خصوصا) بالحرية.
وبالتالي ربما يخلق وضعا مشابها لأوضاع تونس ومصر من حيث "المتنفس الديمقراطي" الذي يختزل بالانتخابات "الحرة"، وبعض الحرية للصحافة والأحزاب والنقابات وأشكال الاحتجاج الأخرى.
وهو الحل الذي سوف يجعل الشعب يستمر في الثورة، ويفرض التأكيد على ضرورة استمرار الصراع من أجل تحقيق مطالب الشعب، ولا بد من ملاحظة هنا هي أن كل الثورات العربية لم تستطع بعد تحقيق هذه المطالب، ولم يتغيّر سوى شكل السلطة.
ولذا فإن الحراكات الشعبية ما زالت مستمرة، رغم أن الثورات أطاحت برؤساء وحاشيتهم، هذا ناهيك عن كل الدمار والقتل الذي حدث في سوريا، ولهذا سيبدو أن ترحيل بشار الأسد مطلب ضروري في كل الأحوال.
انطلاقا من هذه الرؤية لا إمكانية للموافقة على الحل الذي يمكن أن يخرج عن جنيف2، سواء ظل الأسد (وهذا احتمال غير ممكن كما سنوضح) أو رحل. طبعا إلا من قبل الفئات التي سوف تستفيد منه عبر وصولها إلى السلطة.
وهذا الأمر يفرض البحث في وضع الآليات التي يستلزمها تطوير الثورة، وإعادة بنائها بما يجعلها تخرج من عفويتها وفوضويتها وسيطرة "العسكرة" عليها، ويؤسس لها قيادة فعلية.
لكن، لا بد من النظر الموضوعي لما يجري، ليس بالضرورة لتغيير الموقف الآنف الذكر، بل لكي يوضع في السياق الذي تجري فيه الأحداث، فيخرج عن أن يكون "موقفا أخلاقيا" أو "أيديولوجيا" أو دوغمائيا.
فالواقع يحتمل موقفا مركبا يتجاوز القبول أو الرفض (ويتضمن القبول والرفض معا)، لهذا لا بد من فهم الواقع كما هو من أجل الوصول إلى هذا الموقف المركب، فالموقف المبدئي المنطلق من معرفة النتائج سوف يوصل إلى الرفض حتما، لكن هل يتطابق هذا مع الواقع العياني؟ وإذا كان الحل مرفوضا، ما هي "قيمته" في الواقع القائم الآن؟
من هذا المنظور يمكن القول إن استعصاء بات يلف الصراع، وإن المسألة السورية باتت بقبضة القوى الدولية، روسيا وأميركا خصوصا، وإن الوضع الشعبي بات في غاية الصعوبة نتيجة أن عددا كبيرا صار لاجئا في الداخل أو في الدول المجاورة (تقريبا ثلث الشعب).
هذا فضلا عن أن نتيجة الوضع أدت إلى صعوبة شديدة في القدرة على العيش نتيجة انهيار الوضع الاقتصادي، وأسوأ نتيجة الحصار الشديد المفروض على مناطق عديدة، إضافة إلى الوضع الأمني السيئ في كل المناطق.
فالثورة تعسكرت بشكل عشوائي، وهو الأمر الذي أدى إلى "اختراقها" من جهة، وإلى الفشل في ممارسة سياسة عسكرية صحيحة في الصراع نتيجة غياب الخبرة لدى المقاتلين من جهة أخرى، وذلك نتيجة دخول قوى أصولية لا تفعل سوى التخريب والإرباك، وتحولها إلى قوة كبيرة بفعل الدعم المالي من قوى إقليمية.
وبالتالي فقد تشكل جسم عسكري مفكك ومتناقض، وذو طابع محلي، ونمت على هامشه قوى مخترقة أو عصابات عملت على استغلال الفوضى لكي تستفيد ماليا.
هذا الأمر يوضح أن الثورة بالقوى العسكرية التي تكونها، وبالخبرات والسياسات العسكرية، لا تستطيع إسقاط النظام، خصوصا أن الصراع انفتح ضد داعش (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، ويمكن أن ينفتح ضد جبهة النصرة والجبهة الإسلامية نتيجة الأجندات التي تمثلها وتؤدي إلى تخريب الثورة.
كما أن الثورة باتت بلا هدف واضح بعد أن تراجع شعار الحرية، وبدأت تطغى شعارات الدولة الإسلامية، وهو الأمر الذي أربك قطاعا كبيرا من الشعب الذي خاض الثورة وأراد تغيير النظام من أجل الحرية والعدالة.
في المقابل فقد ضعفت السلطة نتيجة تدمير جزء مهم من "بنيتها الصلبة"، وعجزها عن استخدام كل قطاعات الجيش نتيجة الاحتقان الذي تولّد لديها كونها جزءا من الشعب ومن المناطق التي ثارت ووُوجهت بالعنف الشديد. وباتت محمولة من قوى عسكرية خارجية، من إيران وحزب الله والقوى الطائفية العراقية، وبدعم عسكري روسي كبير. وبهذا أصبح صراع الشعب مع "قوى خارجية"، تريد الحفاظ على السلطة، وتعمل على منع سقوطها.
وهذا هو الاستعصاء القائم، الذي لا يبدو أن له حلا الآن، فالثورة ليس من السهولة إعادة بناء قواها بشكل مختلف في ظل سيطرة السلاح، وقوى السلطة بداعميها الإقليميين لم تستطع إنهاء الثورة والانتصار عليها، ولا يبدو أن هذا ممكنا في الفترة القادمة.
وما هو ظاهر هو تزايد القتل والدمار، والوحشية التي تزيد من فضح السلطة، في وضع باتت "المسألة السورية" تنعكس سلبا على "دول الجوار"، بالضبط نتيجة مشاركة قوى طائفية في قتل الشعب السوري دفاعا عن السلطة (لبنان والعراق)، أو نتيجة إرهاق وضع اللاجئين بعد أن تزايد عددهم كثيرا.
ما أشرت إليه يوصل إلى أن الشعب بات يمكن له أن يقبل بحل نتيجة "فقدان الهدف" من جهة، والوضع الشديد الصعوبة الذي يعيشه من جهة أخرى، وربما هذا ما أرادته بعض القوى الدولية (روسيا)، لكنه أيضا يوصل إلى أن استمرار السلطة بات مستحيلا، وأن استمرار الصراع سوف ينعكس سلبا على كل المحيط الإقليمي والوضع العالمي.
هذه المسألة ربما هي التي توحي بأن روسيا وأميركا باتتا معنيتين بفرض حل، فقد حققت أميركا تدمير سوريا (بقوى السلطة وبالسلاح الروسي)، وباتت معنية بإرضاء الروس عبر مساعدتهم على فرض سلطة "تابعة".
وروسيا باتت مرهقة في المسألة السورية وتريد ترتيب وضع سوريا بما يسمح لها بالتمدد في "الشرق الأوسط"، ولهذا بات مطلوبا "الوصول إلى حل".
لقد وصلت المسألة السورية إلى حالة من التخثر الذي قد يفضي إلى "الخروج عن السيطرة"، لهذا تقرر عقد جنيف2 بعد أن أصبح الأمر موثقا في قرار من مجلس الأمن الدولي.
والحل هو "خريطة الطريق" المقررة في جنيف1 من قبل مجموعة العمل الخاصة بسوريا، وخصوصا من قبل روسيا وأميركا. وتقوم على تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحية، لكي تعيد ترتيب وضع السلطة، والتحضير لكتابة دستور جديد وانتخابات رئاسية وبرلمانية، بعد أن يكون قد جرى وقف الصراع المسلح، وإطلاق سراح المعتقلين، وعودة المهجرين، والبدء بإعادة الإعمار.
لكن هذا الأمر يُواجه برفض من طرفين: بشار الأسد والدائرة المحيطة به، بالضبط لأن الحل ينهي سلطته، وبعض أطراف المعارضة التي أخرج بعضها من اللعبة. وتبقى المسألة التي تحتاج إلى حل هي كيفية إخراج بشار الأسد من السلطة لكي يتحقق الحل، وأيضا كيفية إنهاء وجود القوى الأصولية.
إذا تحقق هذا الحل فما هو مفيد فيه هو رحيل بشار الأسد والعائلة والمافيا المحيطة به من جهة، وإنهاء الصراع المسلح من جهة أخرى، وبالتالي وقف وحشية السلطة والانتقال إلى مرحلة ستشهد انفراجا ديمقراطيا.
إضافة إلى محاولة العودة لحياة طبيعية للشعب، المهجّر والمحاصر، وأيضا لباقي الشعب عموما الذي اختنق من توقف عجلة الاقتصاد والضغط الأمني الشديد والتعرّض للقتل اليومي. ومن ثم تهميش دور القوى الأصولية، لينفتح الأفق على إعادة بناء الصراع على أسس جديدة.
وهذا ربما يكون مفيدا لإعادة بناء الثورة عبر إعادة تفعيل المجتمع، وتنظيم الصراع وفق أهداف واضحة ورؤية تسمح بتطوير الصراع من أجل التغيير.
هذه المسائل لا تبدو ممكنة الآن في ظل الوحشية التي تمارسها السلطة، والتي سمحت بأن يصبح السلاح هو الرد الوحيد، ومن ثم توسع دور القوى الأصولية بفعل التأثير الإقليمي.
من هذا المنظور لا أرى أن السلطة الجديدة يمكن أن تحقق مطالب الشعب، إلا أن الحل يمكن أن يوفر فرصة لإعادة بناء الثورة من قبل القوى التي تريد تحقيق تلك المطالب بتحقيق التغيير الجذري في بنية الدولة ككل، لكنها في ذلك ستكون في تصادم مع السلطة الجديدة، وفي وضع أفضل من حالة الاستعصاء القائمة الآن.
(الجزيرة)