لبنان ..حكومة تستبق الفراغ الرئاسي
بعد انقضاء أكثر من عشرة أشهر على تكليف تمام سلام، اتُّفِق على تشكيل حكومة في لبنان أُطلق عليها اسم حكومة "المصلحة الوطنية"، وضمّت 24 وزيرًا يمثّلون كلّ الفئات في تحالفَي 8 آذار و14 آذار (باستثناء القوّات اللبنانية)، والكتلة الوسطية (الممثّلة بالرئيسين ميشيل سليمان، وتمام سلام، والنائب وليد جنبلاط)؛ وذلك وفقًا لمعادلة "الثلاث ثمانيات" (8-8-8) التي لا تعطي أيّ فريق إمكانية الفيتو أو "الثلث المعطِّل".
ويأتي الاتفاق على هذه الحكومة الجامعة بعد نحو ثلاث سنوات على تأليف حكومة نجيب ميقاتي التي تشكّلت من لونٍ سياسي واحد مثّله فريق 8 آذار المحسوب على المحور السوري – الإيراني، ما يبرز تبدّلًا في موازين القوى ومعادلات الصراع في المنطقة. وكان قادة 14 آذار قد عَدّوا حكومة ميقاتي إقصائية، تسبّبت في خلل وطني كبير. وعليه، فإنّ الحكومة الجديدة تُعيد – برأيهم - التوازن إلى الحياة السياسية، فضلًا عن أنّها تسهم في تخفيف الاحتقان السنّي - الشيعي الذي تفاقم على وقع الصراع في سورية.
الحسابات الدولية والإقليمية
يرتبط تشكيل الحكومة اللبنانية في هذا الوقت تحديدًا بالوضعَين الإقليمي والدولي، مقدار ارتباطه بوضع الفرقاء اللبنانيين وحساباتهم المحلّية؛ فالولايات المتحدة وأوروبا مهتمّتان بتحقيق استقرار داخلي تمثّل ولادة الحكومة أحد أهمّ أركانه، على أساس أنّ وجود حكومة يسهم في تحسين المناخات التوافقية الضرورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، قبل نهاية ولاية الرئيس ميشيل سليمان في 25 أيار / مايو 2014. يُضاف إلى ذلك أنّ "المساعدات الأمنيّة التي وعد لبنان بتلقّيها من الخارج، فضلًا عن المساعدات الإنسانية للاجئين، يتطلّب الوفاء بها وجود حكومة فاعلة".
وقد ظهر خلال الأسابيع الماضية حرص واشنطن (ودول غربية أخرى) على إشراك حزب الله في الحكومة، وعلى دعمها الرئيسيْن سليمان وسلام في مساعيهما للـ "نأي بالنفس" عن الأزمة السوريّة و"تحييد لبنان عن تداعيات الصراع في المنطقة". كما أنّ الاتفاق الدولي على حصر الأزمة في سورية ومنع امتدادها إلى الدول المجاورة، يتطلّب ضبط الوضع في لبنان ومنعه من الانزلاق إلى حربٍ داخلية بسبب تورّط حزب الله في سورية.
أمّا على المستوى الإقليمي، فيبدو أنّ إيران أوكلت البتّ في أمر المشاركة في الحكومة إلى "حزب الله" و"حركة أمل". والحال أنّ إيران المشغولة بترتيب أوراقها للدخول في مفاوضات صعبة مع الغرب لتوقيع اتّفاق نهائي بخصوص برنامجها النووي، وجدت أنّ من مصلحتها تسهيل تشكيل حكومة في لبنان، ما يعطي انطباعًا برغبتها في ملاقاة الرغبة الغربية عزل هذا البلد عن تأثيرات الصراع السوري.
كما أنّ إيران تتّخذ من التعاون في تشكيل حكومة في لبنان مدخلًا (غير مكلف) لتحسين علاقاتها بالسعودية. بعد أن قامت بتطبيع علاقاتها مع تركيا. ويبدو أنّ إيران تبدي استعدادًا لتقديم تنازلات في قضايا أقلّ أهمية، لا تغيّر في موازين القوى على الأرض؛ مثل تشكيل حكومة في لبنان، في مقابل تشدّدها في قضايا أكثر إستراتيجية (يتجلّى في زيادة دعمها النظام السوري)، ما يعني استمرار حالة الشدّ والجذب إقليميًّا. وهو ما ستظهر آثاره يقينًا على حال الاستقرار في لبنان، والعراق، وعموم المنطقة.
حسابات أطراف الأزمة الداخلية
ارتبطت حسابات الأطراف اللبنانية كافّة (بما فيها حزب الله) بتطوّرات الوضع السوري واحتمالات "جنيف2"، سواء لجهة حصول تطوّر ميداني كبير أو اتّفاق سياسي تظهر آثاره بالضرورة على لبنان. ولمّا لم يحدث جديد على المستوييْن، حزم الجميع أمرهم بضرورة تشكيل حكومة تملأ الفراغ وتحدّ من تعرّض لبنان لرياح التأثير السوريّة. كما يبدو أنّ ضغطًا إيرانيًّا على حزب الله للقبول بتشكيل حكومة، تَرافق مع تزايد الضغط الشعبي بسبب تضرّر مصالح المواطنين في الضاحية الجنوبية لبيروت (التفجيرات، وحالة الخوف)، والإجراءات العقابيّة التي اتّخذتها دول الخليج العربية بحقّ حزب الله والمتعاطفين معه؛ بسبب مشاركته في القتال في سورية.
من جهةٍ ثانية، يريد حزب الله أن يكون جزءًا من القرار المتعلّق بالاستحقاق الرئاسي المقبل، وفي التفاوض مع الغرب أيضًا. وهذا لن يتحقّق إلّا من خلال حكومة شرعيّة مهما كان شكلها ومضمونها. بيد أنّ المكسب الأهمّ الذي حقّقه الحزب، وجاراه فيه تيّار المستقبل (لحسابات متعلّقة بالموقفين السعودي والأميركي)، هو أنّ الحكومة الجديدة ستؤمّن الغطاء السياسي للأجهزة الأمنيّة؛ لتقوم بدورها في "مكافحة الإرهاب". وقد جاءت الحملة الواسعة التي قامت بها مخابرات الجيش وأسفرت عن اعتقال "إرهابيين"، لتخدم هذا الهدف؛ فهذه الحملة لم تكن برأي الكثيرين إلّا "مسرحيات" في إطار خطّة محكمة وضعها حزب الله لتظهير صورته على أنّه "بطل" المواجهة ضدّ "الإرهاب التكفيري"، تمامًا كما حاول النظام السوري أن يفعل قبل مؤتمر "جنيف2"، وخلاله؛ فالاعتقالات والحملات الدعائية التي رافقتها كانت تهدف إلى تكريس خطاب الحزب عن وجود عدوّ "تكفيري" يستحقّ أن تتشكّل في مواجهته حكومة وحدة وطنية، فتتحوّل بذلك التنازلات التي قدّمها الحزب لتشكيل الحكومة إلى "انتصارات وطنية" في الداخل، ونافذة لمغازلة أميركا وعموم الغرب في الخارج، على أساس وجود لغة مشتركة هي "مكافحة الإرهاب".
فالسرعة التي تحرَّك بها الجيش اللبناني ومخابراته، في اتّجاه واحد (هو البيئة السنّية المؤيّدة للثورة السوريّة)، أثارت الكثير من علامات الاستفهام، خصوصًا أنّ الموقوف نعيم عباس الذي جرى وصفه بأنّه من أخطر الإرهابيين، اعترف خلال أقلّ من نصف ساعة بارتكابه عمليات إرهابية يعجز عن القيام بها تنظيمٌ كبير متكامل. لقد أثارت هذه الاعتقالات تعليقات ساخرة ومشكّكة. كما استدعت موقفًا من نوّاب كتلة المستقبل.
من الواضح أيضًا أنّ هذا "الإنجاز المخابراتي" للجيش اللبناني يجري استخدامه في سياقٍ سياسي؛ لتقديم قائد الجيش العماد جان قهوجي مرشّحًا لرئاسة الجمهورية؛ إذ جمع قهوجي مؤخّرًا ضبّاطه، وألقى فيهم خطابًا وصفته مصادر سياسية في بيروت بأنّه بيان ترشيح لرئاسة الجمهورية.
أمّا سعد الحريري، فيحاول من جهته تأكيد دوره الفاعل في محاربة الإرهاب وتكريس موقعه بوصفه ممثّلًا لـ"الاعتدال" السنّي في لبنان. ومثّل لقاؤه الملك السعودي في 14 شباط / فبراير مناسبةً لإظهار دعم الرياض له في تبنّي هذا النهج؛ فمحاربة "الإرهاب" لبنانيًّا سوف تحتاج إلى غطاء سنّي لا يمكن أن يتوافر من دون الحريري والسعودية التي أصدرت قانونًا خاصًّا بـذلك. لقد استكمل الحريري هذا التوجّه بزيارته المفاجئة (18 شباط/فبراير 2014) إلى مصر حيث يقوم النظام بحملة ضدّ "الإخوان المسلمين"، والإرهاب أيضًا.
من جهةٍ ثانية، كان الحريري وتيّاره في حاجة ماسّة إلى تشكيل حكومة نظرًا لانزلاق قواعده الشعبية باتّجاه التطرّف ردًّا على تورّط حزب الله في الصراع السوري. وقد شكّلت ظاهرة أحمد الأسير في صيدا، ثمّ ظاهرة زعماء المحاور في طرابلس، مؤشّرًا على مدى التآكل الذي أخذ يصيب قواعد الحريري في هاتين المدينتين السنّيتين.
فضلًا عن ذلك، استهدفت التنازلات التي قدّمها سعد الحريري بمباركة سعودية، من أجل تشكيل حكومة، إعادة فريق 14 آذار (وتيّار المستقبل تحديدًا) إلى السلطة، وتجنّب إقصائه في الاستحقاقات المهمّة المقبلة؛ وعلى رأسها: إعداد قانون للانتخابات النيابية، وانتخابات رئاسة الجمهورية. كما أنّ هذه الحكومة ستكون بالنسبة إلى فريق 14 آذار والسعودية الأنسب لإدارة الفراغ، إذا ما تعذّر انتخاب رئيس جديد للجمهورية. وفي هذا السياق، بالإمكان فهم القلق الذي أصاب حزب الله جرّاء التقارب الحاصل بين تيار المستقبل والتيار الوطني الحرّ (الحليف الأساسي للحزب)؛ فقد زار الوزير جبران باسيل (صهر الجنرال عون) الرياض حيث التقى الرئيس سعد الحريري. وتسرّبت معلومات عن لقاءات خاصّة جرت بين الرئيس الحريري والجنرال عون أسفرت عن تفاهمات على الحكومة الجديدة، في مشهد مألوف لبنانيًّا؛ إذ تتقارب المصالح الفئوية وتتباعد وتتنافر وتتقاطع، وفقًا لمصالح مرحلية وتحالفات آنيّة لا تلبث أن تتغيّر.
احتمالات المرحلة المقبلة
لا يمكن لحكومة الرئيس تمام سلام في ظروف ولادتها إلا أن تتّجه نحو بيان وزاري مقتضب لا يغرق في التفاصيل والتعهّدات، علمًا وأنّ مهمّتها الأساسية هي التحضير للاستحقاق الرئاسي، عنوان التوافق الوحيد عليها؛ ما يعني أنّ عمرها قد لا يتجاوز الثلاثة أشهر. من هنا، فإنّ تجنّب المواضيع الخلافيّة في البيان الوزاري والتركيز على إدراج عناوين أساسية لا خلاف عليها، كالاستحقاق الرئاسي، والتصدّي للتحدّيات الأمنيّة والاقتصادية، قد يسهّلان عملها. وإذا تمكّنت الحكومة من إنجاز الاستحقاق الرئاسي وانتخاب خلفٍ للرئيس ميشيل سليمان في مهلة أقصاها الخامس والعشرون من أيار / مايو المقبل، فإنّها سوف تتحوّل بعد ذلك تلقائيًّا إلى حكومة تصريف أعمال، ويتقرّر مصيرها في ضوء مسار الانتخابات الرئاسية.
وعلى الرغم من أنّ حصول فراغ رئاسي يبقى احتمالًا كبيرًا، في ضوء ارتباط رهانات الأطراف اللبنانية بتطوّرات الوضع السوري، فمجريات التوافق على تشكيل الحكومة تترك الباب مفتوحًا أمام تكرار حصول اتّفاق دولي - إقليمي جديد على إجراء الانتخابات الرئاسيّة في موعدها. لكن هذا التوافق المحتمل لا ينطبق على شخص الرئيس. من هنا، سيكون لبنان على موعد مع أحد الاحتمالات التالية بخصوص منصب الرئاسة الأولى:
1. التمديد للرئيس ميشيل سليمان أسوةً بتمديدين سابقين للرئيسين؛ إلياس الهراوي، وإميل لحّود.
2. انتخاب قائد الجيش رئيسًا أسوةً بما جرى سابقًا أيضًا من انتخاب قائدَي الجيش الرئيسَين إميل لحّود، وميشيل سليمان؛ بما ينذر أن يصبح ذلك تقليدًا يؤكّد انقسام المجتمع والسياسة في لبنان إلى درجة أنّه لم يبق إلّا الجيش جامعًا؛ ما يجعل كلّ قائد جيش مرشّحًا للرئاسة. وهذا من شأنه أن يعسكر المنصب.
3. انتخاب رئيس يوافق عليه الجنرال عون نظرًا لاستحالة القبول بعون نفسه رئيسًا، من هنا جاءت التسريبات عن اتّفاق مع الحريري (بمباركة سعودية - أميركية) يعدّ عون كناخب أوّل في الاستحقاق الرئاسي.
مهما يكن، يبدو أنّ حكومة الرئيس تمام سلام التي وُلدت في 15 شباط / فبراير 2014، جنّبت لبنان مرحليًّا مزالقَ خطيرة كان يمكن الوقوع فيها لو جرى تأليف حكومة أمر واقع. لكن حجم التحدّيات التي تنتظرها، سواء نجحت في مهمّتها تأمين انتخاب رئيس جديد في الموعد المحدّد أو لا، سوف يترتّب عليها اتّخاذ قرارات مصيرية. ولكن تركيبتها جاءت لكي تمنع اتّخاذ مثل هذه القرارات؛ فهي حكومة الواقع، وإن كانت حكومة أمر واقع. إنّها حكومة تعكس الواقع اللبناني في حالة الانسداد.