أراضي البحر الميت وصفقة "على عينك يا تاجر"
بغض النظر عن كل تفاصيل قضية بيع بعض أراضي البحر الميت لأحد المستثمرين، فإن كتاب رئيس الوزراء الموجه لرئيس مفوضي المناطق التنموية والذي يطلب فيه أن يتم عرض الأراضي على المستثمر بسعر 75 ألف دينار للدونم مع تقسيط المبلغ، متجاهلا في ذلك آليات البيع المعتمدة قانونيا وصارفا النظر عن حقيقة أن قيمة الأرض في تلك المنطقة أصبحت تزيد عن 250 ألف دينار للدونم، يعتبر سقطة كبيرة للحكومة ولا يمكن تبرير ما جاء في هذا الكتاب بأي شكل من الأشكال لأن فيه مخالفة واضحة لكل قيم النزاهة وما يفترض بالمسؤول من حرص على المال العام.
إن صيغة هذا الكتاب ولهجته الآمرة والمتعالية والمتجاهلة للنظم والآليات المعتمدة في تقدير أسعار الأراضي التابعة لمنطقة البحر الميت التنموية، يدل بشكل واضح على تنمّر رئيس الحكومة وتفرده في اتخاذ القرار بشكل متسلط ورافض للمشاركة بالرأي أو المشورة حتى من قبل من هم مسؤولين قانوناً عن اتخاذ القرار، مستغلاً منصبه كرئيس للحكومة ليدفع بهؤلاء المسؤولين نحو اتخاذ قرارات تتفق مع ما يراه هو بغض النظر عن أي تشريعات أو تنظيمات.
كتاب رئيس الوزراء هو باختصار فضيحة حكومية بامتياز، وهو دليل إدانة واضح على تجاوز معايير النزاهة وتجرؤ المسؤول على المال العام، وقد تطوع الرئيس بنفسه لتقديم هذا الدليل بمجرد توقيعه على هذا الكتاب، بعد أن خانه ذكاؤه تحت تأثير نشوة التسلط والتفرد بالقرار، وبعد أن أصبح أكثر قناعة بأنه قادر على تنفيذ ما يشاء دون أن يكون لأحد أن يعارضه أو يقف في وجه رغباته التي بات يتصور أنها واجبات وطنية على الجميع السعي لتنفيذها.
قد أبدو منفصلا عن الواقع أو على الأقل مجرد حالم إن قلت أن فضيحة مثل فضيحة هذا الكتاب هي أكثر من كافية ليقوم الرئيس بتقديم استقالته فوراً، ولكن هي فعلا فضيحة بكل المقاييس لا لأن الفساد هو أمر مستهجن في بلادنا ولا لأن قضية التلاعب بأملاك الوطن ومقدراته حالة طارئة عليه، ولكن لأن ممارسة الفساد بشكل سافر جدا ودون اختباء أو محاولة التخفي، وفي هذا الوقت بالذات الذي تدّعي فيه الحكومة حرصها على النزاهة ومحاربة الفساد، لهو مؤشر خطير جداً على أننا ما نزال نسير إلى الوراء وأن الفساد ما زال يتجذر أكثر واكثر ويعزز من مواقعه المتنفذة بحيث أصبح عرّابوه يجاهرون بالفاحشة وعلى "عينك يا تاجر".
ختاما، وحتى لا نكون كمن ينظر بعين واحدة للأمور، وحتى لا يقتصر كلامنا على جانب الفساد ومؤشراته وممارساته، فلا بد من النظر أيضا إلى جانب ايجابي هام في هذه القضية، ألا وهو موقف السيدة مها الخطيب رئيسة مفوضي المناطق التنموية، والتي لم ترضخ لضغط رئيس الحكومة عليها لتمرير الصفقة الأكثر من مشبوهة، فهذا موقف يشرف أي مسؤول ويستحق فعلاً الإشادة، ورغم أن الأمانة والنزاهة هي الأصل في مواقف المسؤول وممارساته، وهي جزء من واجبه بحيث يرى البعض أنه لا يستحق الشكر عليه، إلا اننا وللأسف بتنا في زمن طغت فيه العملة الرديئة على العملة الجيدة، وبالتالي لا بد من توجيه الشكر والتقدير لمثل هذه المواقف وذلك من باب دعم وتشجيع كل مسؤول على اتخاذ مواقف مشابهة خدمة لوطنه ومواطنيه.