من الذي تآمر على الزرقاء؟
كانت الزرقاء مسقط رأسي عندما حان موعد قدومي إلى هذه الدنيا، إلا أن ظروف عائلتي الحياتية إنتقلت بهم منها إلى إربد وأنا بين السنة والسنتين من العمر، وهذا لم يسمح لذاكرتي بأن تحتفظ بأي معلم أو صورة يمكن لي أن أستدعيها عندما اتذكر هذه المدينة، غير أن روابطي الأسرية وعلاقاتي مع الأقارب والأصدقاء كانت تقودوني دائما إلى الزرقاء مما جعلني أتعرف إلى هذه المدينة بشكل جيد يمكنني معه أن أقول أنها مدينة تفتقد إلى العناية والاهتمام والتخطيط على كل الصعد.
إن ما أقره هنا كمشاهد زائر للمدينة لا ينفصل أبدا عن ذكريات من عاشوا في الزرقاء قبل عشرات السنين ومنهم أبي وأمي والكثير من أقاربي وأصدقائي، ولطالما سمعت منهم عن مدينة كل ما فيها ينبض بالجمال والحضارة والروعة، وهذا يدفعني دائما للسؤال: ما الذي حدث لهذه المدينة لتتدهور بهذه الطريقة التي أخشى أنها مقصودة وليست ناتجة عن تطور طبيعي فرضته الظروف.
لقد تشكلت الزرقاء كتجمع بشري حديث من خلال خليط متنوع يمكن أن نقول عنه بكل ثقة أنه مثل الأردن كلها، فالسكان الأصليون من بدو وشركس وشيشان إختلط بهم العسكر أبناء الطفيلة وإربد والكرك وكل مناطق الأردن، واختلط بالجميع ابناء فلسطين ممن استقروا في شرق الاردن قبل حروب العرب وممن وفدوا اليها بعد كوارث العرب في فلسطين، وهكذا أزعم أن مدينة الزرقاء يمكن أن نسميها الأردن الصغير بدرجة عالية من الصدق.
هذا الخليط البشري المتنوع كان من شأنه - كما يحدث في كل مدن العالم التي تمتاز بالتنوع السكاني الثري - أن يغني بيئة الزرقاء الثقافية والاجتماعية ويعطيها ميزة متقدمة على كل مدن الاردن الأخرى (باستثناء عمان التي تتشابه معها من حيث التنوع إلا أنها تمتاز عنها بأنها عاصمة الدولة ومحط اهتمامها وعنايتها)، وهذا ما كان فعلا حتى نهاية الستينات من القرن الماضي.
إن هذه الظروف الاجتماعية والثقافية التي كان من المفروض أن تخدم الزرقاء جوبهت بظروف أخرى أفقدتها الميزة وحولتها إلى مدينة خلفية أو خط دفاع عن عمان التي بدأت في السبعينات تشهد نموا متسارعا في كافة المجالات، الأمر الذي كان يعني بالضرورة نموا سكانيا غير طبيعي وتدفقا بشريا ضخما نحو عاصمة الأردن الفتية والنامية بقوة، وكان لا بد للعاصمة الحديثة الناشئة أن يكون فيها معايير للتنظيم تجعل من الإقامة فيها أكثر كلفة من غيرها من المدن، وهنا ظهرت الحاجة إلى الزرقاء كمدينة بديلة مستعدة لاستقبال المتدفقين على عمان وذلك نظرا لقربها الشديد منها.
لقد تعمد المسؤولون إهمال الزرقاء من خلال إهمال معايير التنظيم لتبقى مقصدا لأولئك الوافدين الذين لا يقدرون على المعيشة في عمان، وكان مقصودا أن تبقى الزرقاء أقل من حيث التكلفة المعيشية، وهذا يتطلب أن يسمح فيها بالبناء غير المنظم لاستيعاب أكبر عدد ممكن من الوحدات السكنية دون قدرة على عمل البنية التحتية اللازمة لخدمة السكان، وتناسى أولئك المهملون أن الزرقاء هي معشوقة الكثير من سكانها وأنهم لن يرحلوا عنها حتى لو توفرت الامكانيات لذلك، فهي بالنسبة لهم وطن داخل وطن.
إن خطيئة الدولة بحق مدينة الزرقاء يجب التكفير عنها ولا بد من إعادة اعتبار لهذه المدينة التي كانت مقصدا لأهل عمان ليمضوا فيها أوقاتهم الجميلة، ولا بد أن تجد الدولة الأردنية طريقة لتعويض المدينة عن كل هذا الإهمال وكل الأذى الذي لحق بالمدينة من غير ذنب اقترفه أهلها الطيبون، وكعربون محبة من الوطن لابنته المظلومة الزرقاء وكمقدمة مسار نحو التكفير عن الذنب، لا بد من إعادة الألق لسيل الزرقاء الذي كان يوما ما جميلا، ولا بد على الأقل من توفير حد معقول من الخدمات الانسانية لسكانها الرائعين والذين ما كانوا يوما إلا جنودا مخلصين لوطنهم، سواء من خلال خدمتهم في الجيش أو عملهم في الصناعة والتجارة والتعليم والصحة وغيرها من مناشط الحياة الأخرى.
تحية من القلب لكل أهل الزرقاء القابضين على جمر عشقهم لها رغم كل الظروف.