المرأة مواطنة "منزوعة الدسم"
تراجع الحكومة عن توجهها باقرار الحقوق المدنية لابناء الاردنيات المتزوجات من غير اردنيين يدلل على حجم الضعف والهزال السياسي والحقوقي في حكوماتنا ومراكز صنع القرار في الدولة. فلم نجد حتى الان مسؤولا في الدولة الاردنية او الحكومة يدافع عن توجه الحكومة الاساسي ويطرح المنظار الحقوقي للخطوة، بل نلمس انسياقا مع التيارات المعادية للمبادئ الحقوقية المقرة اصلا في الدستور والتشريعات الدولية.
وتثبت الدولة مجددا ان خطابها الحقوقي في المنابر الدولية هو مجرد ديكور او خطاب انشائي غير مستند لقناعات او توجهات واضحة ضمن البرنامج السياسي للدولة، وهي مجرد مناورات لكسب ود الدول الغربية لابقاء صورة ديمقراطية عن الاردن لا تعكس الواقع خاصة فيما يتعلق بحقوق المرأة.
المفارقة ان تراجع الحكومة عن قرار كان من شأن تنفيذه ان يعزز المساواة بين المراة والرجل في الاردن جاء متزامنا مع الاحتفال بيوم المراة العالمي في 8 اذار مارس. وهو يوم تشبعنا فيه الحكومة والفعاليات الحزبية والبرلمانية بالخطب الرنانة عن تعزيز دور المرأة وحقوقها والمساواة.
ان الجدل الذي اثير حول موضوع الحقوق المدنية تركز في الجانب السياسي، وبدا واضحا ان الذرائع التي ساقها التيار المعارض للحقوق المدنية والجنسية لابناء الاردنيات يتكئ على مخاوف سياسية من التوطين للفلسطينيين واقامة الوطن البديل، ويمكن تقسيم هذا التيار الى نوعين:
الاول يرفض منح هذه الفئة اي حقوق بدعوى ان اي خطوة هي تمهيد لتجنيس الفلسطينيين كلهم وتوطينهم والغاء حق العودة، وعند طرح موضوع الجنسيات الاخرى يبدي بعضهم استعدادا لمناقشة منح مكرمات ومزايا لابناء المتزوجات من غير اردنيين على أسس انسانية شرط ان لا يكونوا فلسطينيين او دراسة كل حالة بحالة (وهو ما وصلت له الحكومة الان).
الثاني: تيار لا يرفض منح الحقوق المدنية لكن ضمن ضوابط وبشرط ان تكون هذه الحقوق هي السقف النهائي لمطالب الاردنيات، وضمنهم تيار يتخوف من توقيت طرح الامر الان ويدعو للتريث بالوقت وتأجيل الموضوع لحين مرور عاصفة كيري.
المفارقة الواضحة ان التيار في اغلبه ورغم انه يستند لرأي سياسي الا انه في حقيقة الامر يرفض منح ابناء الاردنيات هذه الحقوق (وحق الجنسية) استنادا لرفضه لمبدأ المساواة مع المرأة ، ويمكن القول ان قلة قليلة من المثقفين والسياسيين والنخب من معارضي منح الجنسية و/ او الحقوق لأبناء الاردنيات من يكشف علنا موقفه الحقيقي في رفض المساواة مع المرأة، وهو الموقف الذي قد يعبر عنه العديد من المواطنين بشكل تلقائي في مناقشاتهم.
لا تستطيع لوم مواطنين عاديين على موقفهم التمييزي ضد المرأة بحكم ان هناك ارث تاريخي يميز ضد المرأة في المجتمع ولكن المواطن العادي وعند اثارة حوار موضوعي يطور من موقفه تجاه مواقف اكثر انصافا للمرأة، لكن المشكلة تكمن في النخب التي تغلف مواقفها التمييزية ضد المرأة باراء سياسية، وبعضهم تقلد مناصب رفيعة في الدولة، او يطرح نفسه مدافعا عن حقوق المراة.
وتظهر حقيقة المواقف عند الدخول في النقاش التفصيلي خاصة حين يعجز أي منهم عن ايجاد رابط حقيقي بين هذه الحقوق وموضوع التوطين والوطن البديل والغاء حق العودة. لان الامر ببساطة غير مرتبط، اولا لان حق العودة حق فردي كفله القانون الانساني الدولي لا يسقط بالتقادم وغير قابل للتصرف من قبل احد سوى صاحب الحق. ثانيا الوطن البديل والتوطين وهم يرفضه الاردني والفلسطيني معا وكل العرب.. وحصول أي شخص على أي جنسية او اكثر لا يمنعه من العودة الى موطنه الاصلي حين يقرر ذلك. ثالثا الامر لا يرتبط بالفلسطينيين فقط وهناك اكثر من 30 الف اردنية (على الاقل) متزوجات من غير اردنيين وازواجهن ليسوا فلسطينيين ومع ذلك يرفض هؤلاء "النخبة" منحهم هذه الحقوق.
ويمكن من متابعة الحوارات التي تجري على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي وحتى في جلسات الحوار المجتمعية ملاحظة ان اساس رفض الموضوع يستند الى مبدأ تمييزي ضد المرأة وليس موقف سياسي. وما يدلل على ذلك الآراء التالية التي يطرحها بعض المثقفين والمعلقين:
من تتزوج غير اردني عليها ان تتحمل مسؤولية قرارها
هل نريد منح الجنسية والحقوق لكل من هب ودب او من لا نعرف اصلهم من فصلهم
الولد له اب وابوه لديه جنسية فلياخذها
ازدواجية الجنسية لا يجوز بين الدول العربية
بكرة بيصيروا ينافسوا ولاد البلد على كل شي
بكرة بيصير كل مصري او سوري او عراقي او فلسطيني يتجوز اردنية عشان ياخذ الجنسية او الاقامة
كيف بده يكون منتمي للبلد اذا ابوه مش اردني
مش بيكفي مستضيفينهم في البلد.. لازم الحكومة تجبر اباؤهم ياخذوهم على بلادهم
بكره بيصير الاردني اقلية في البلد
الولد بينسب لابوه مش لامه .. في الدين وفي التقاليد
هذول بياثروا على هوية البلد
هذه الاراء والتعليقات وغيرها تؤشر جميعها على عقلية قائمة على التمييز ضد المرأة لكنها تتغطى بذرائع سياسية.. يمكن طبعا مناقشة كل فكرة يطرحها اصحاب هذه الاراء.. لكن ما يثير الاستفزاز احيانا اللغة المغرقة في العنصرية ضد المراة.
فعلى سبيل المثال من يريد تحميل المرأة مسؤولية قرارها بالزواج من اجنبي نسي ان يفعل الأمر ذاته مع الاردني الذكر، صاحب هذا الرأي لا يؤمن بالاساس الا بان الذكر يحق له ما لا يحق للانثى، والانثى بالنسبة له ملكية خاصة تتبع الرجل وليست كيانا مستقلا، واذا ارادت ان تكون مستقلة، تحل عليها اللعنة وتخرج من القبيلة والعائلة ولا تعود فردا في هذا الوطن، برايهم مواطنتها قائمة على التحاقها فقط بالذكر اب او اخ او زوج.. وليس مواطنة مكتملة بحد ذاتها، باختصار هي مواطنة درجة ثانية منزوعة "الامتيازات" او منزوعة "الدسم".
والخوف على الهوية الوطنية ادعاء زائف لان التأثير على الهوية يمكن ان يثار ايضا على الزوجات الاجنبيات وابناء الاردنيين المتزوجين من اجنبيات .. اعتقد انه من المناسب ان تصدر الحكومة ارقامها حول عدد الاردنيين الذكور المتزوجين من اجنبيات (طبعا الزوجات هنا يحصلن على الجنسية بشكل تلقائي بعد عدد من السنوات) لنرى حجم هذا التأثير وايهما اكثر على بنية المجتمع..
ومن يتحدث عن نسب الولد لابيه في الدين والعادات نسي ان الدين اصلا يعتبر الام هي الاصل وينسب لها الانسان يوم القيامة، وان تشريع النسب للب في الدين هو فقط لتجنب اختلاط الانساب ، ولكن تبقى الام هي الاصل. اما في التقاليد فمن منا لا يعرف الامثال التاريخية والتراثية التي تتحدث عن اولوية البحث عن عريس للابنة قبل الابن، ما يقال عن تكون نسيب خير من ان تكون قريب، وكلها امثال تعلي من شأن زوج المرأة للاسرة العربية باعتباره فردا جديدا في العائلة بل اهم من الابن احيانا. ومن منا ينسى ان العشائر العربية ومنها الاردنية الاصيلة تمجد عبر التاريخ نساءها، ولعل عبارة "وانا اخو خضرة" من اشهر تلك العبارات التي كانت تعبر عن اصالة الشخص الذي يقولها. ومن يقرأ في التاريخ يعرف ان بعض الافخاد والحمايل سميت على اسماء سيدات.
باختصار تاريخنا الحضاري وان كان لم ينصف المرأة كما يجب لكنه بالتأكيد تعامل معها في احيانا كثيرة كانسان اكثر مما يتعامل معها بعض دعاة التحضر في ايامنا هذه ومنهم مثقفين ليراليين ويساريين وقوميين يدعون الدفاع عن المراة وحقوقها لكنهم في الواقع لم ياخذوا من الثقافة والحضارة والتمدن الا قشورها الايديولوجية لتزيين وجوههم بها.
من يستكثر على الابن ان يحمل جنسيتين، عليه ان يتذكر وجود مئات الالاف من الاردنيين ممن يحملون جنسيتين او اكثر اما بحكم ان امهاتهم اجنبيات، او ولدوا في بلد اجنبي "يحترم حقوق الفرد ويمنحه الجنسية بالمولد" او اكتسبها بالعمل او الزواج او الهجرة او غيرها.. وعليه ان يتذكر ان مئات الاف اخرين يتراكضون للحصول على جنسية ثانية لهم او لا بنائهم.. قد نقبل بتنظيم الحق في الجنسية اذا كان المبدأ يساوي بين الرجل والمراة، فاذا كان لديهم تخوف على هوية الاردن ويرفضوا ازدواجية الجنسية فليضعوا تشريعا يحدد منح الجنسية للابن اذا كان من "ابويين اردنيين فقط"، حينها نتفهم مخاوفهم السياسية المزعومة.. اما ربط هذه المخاوف بالمراة فهو انتقاص لها ويعبر عن عقلية تمييزية.
ببساطة ابن الاردني، سواء كان هذا الاردني ذكر ام انثى، من حقه ان يكون اردنيا، وهذا مبدأ يجب ان لا يتاثر بالتغيرات والظروف السياسية.
واذا كان نضال المراة والمدافعين عن حقوقها لم ينجح حتى الان في تحصيل هذا الحق الاصيل فذلك لا يعني بانه غير موجود او غير حقيقي.. وكنا نعتقد ان الدولة الاردنية قد وصلت لهذه القناعة ولكنها وبسبب هذه الظروف الساسية تعمل على التدرج في اعادة هذا الحق بخطوات تدريجية، وان الحقوق المدنية هي اول الخطوات ضمن سياق عام في الدولة، وان مرتكز صنع القرار ستدافع عن خياراتها بمنظور سياسي وحقوقي ولا تخضع لاملاءات تيار محافظ يميز ضد المراة. لكن التجربة العملية اثبتت انه لا يوجد في المطبخ السياسي في الدولة الاردنية شخصيات سياسية وازنة تستطيع ان تشكل روافع سياسية لاي توجه اصلاحي حقيقي.
ولذلك فان تحويل الحديث عن "حقوق" ابناء الاردنيات الى "امتيازات" فيه اهانة بالغة للاردنيين المؤمنين بمبادئ الدولة المدنية والمواطنة وسيادة القانون، ومن الواجب رفضه.