المعلّم.. أمل الأردنيّين الأخير وحكاية وطن يتعرّض للهدم
تامر خرمه- كثيرة هي الأخطاء التي يقع فيها المراهق، ولكن أخطر ما في المراهقة أن هذه المرحلة النزقة قد تصل بأحدهم إلى تدمير مستقبله كليّاً، تحقيقاً لنزوة آنيّة أو رغبة مرحليّة ملحّة. الثمن الذي قد يدفعه المراهق في سبيل لحظة عابرة قد يدمّر حتّى كيانه، هنا تكمن المأساة.
الأمر هو سيّان في عالم السياسة، غير أنّ المراهقة السياسيّة لا تهلك مقترفها فحسب، بل إن وطناً بأكمله قد يضيع ثمناً لقرار متسرّع أو إجراء ارتجالي، إرضاء لنزوة فلان أو رغبة علاّن.
المغامرة بالوطن قد تكون نتيجة لمحاولة إرضاء مسؤول، أو تحقيقاً لمآرب متنفّذ، أو حتّى من باب "الجكر"، باعتبار أن بعض من يصل السلطة يفترض أن منصبه يضعه في موقع "أعلى" من الناس، ولا يتوقّع منهم سوى "السمع والطاعة". هذا البعض الذي لا يدرك أن منصبه هو وظيفة يتقاضى راتبها من جيوب الناس، من أجل تحقيق مصالحهم، يرفض الإصغاء لمطالبهم ويمعن في "المجاكرة" كلّما طالبت فئة بحقّها، وقد يصل به الأمر إلى اتّخاذ قرارات تدميريّة.
أن يتناقد التكتيك أو الإجراء الآنيّ مع المصالح الاستراتيجيّة، مسألة لا تليق بأي سياسي يستحقّ منصبه. أحياناً قد يضطر مسؤول إلى اتّخاذ قرار غير مناسب في بعض النواحي، ولكن المهمّ ألاّ تنعكس نتائج هذا القرار سلبيّاً على المصلحة العليا أو الأهداف بعيدة المدى، فهذه خطيئة من الصعب تدارك نتائجها.
في الأردن كثيرة هي القرارات غير المدروسة التي أفضت إلى نتائج كارثيّة من أجل تحقيق رغبة آنيّة لمسؤول أو متنفّذ، بل إن كلّ مؤسّسات الدولة المنتجة تبخّرت بفعل مثل هذه القرارات التي لم يدرك أصحابها ما هو أبعد من "ربح سريع" ثمناً لتصفية هذه المؤسّسات. وماذا كانت النتيجة ؟
الدولة لم تعد قادرة على الاضطلاع بدورها الاجتماعي والاقتصادي، بل وصل الأمر إلى شعور المسؤولين بضياع "هيبة الدولة"، وهو ما يتجلّى في كثير من التصريحات الرسميّة التي تلمس فيها التوق لهذه "الهيبة" المفقودة.
المأساة لم تقتصر على مؤسّسات الدولة الاقتصاديّة، بل تجاوزتها إلى المؤسّسات السياسيّة، كالسلطة التشريعيّة التي ضاعت هيبتها وتجرّدت من كلّ مبرّرات وجودها عبر تحويلها إلى مجرّد أداة لتمرير قرارات المطبخ السياسي، دون أن يكون لها أيّ دور حقيقي سواء في الرقابة أو التشريع.
كم كانت مشوّهة ومؤسفة صورة مجلس نوّاب الـ 111 الذي ارتفعت فيه الأيادي لمبايعة رئيس الوزراء. الصورة لم تتبدّل، بل مازال المجلس هو ذاته مع تغيّر الوجوه. مجلس ضاعت هيبته بعد أن بات محض أداة تتمّ إدارتها عبر الهاتف لتحقيق مراد جهة أو تنفيذ أوامر فرد. سلطة تشريعيّة ضائعة لا يمكن لضياعها سوى أن ينعكس سلباً على السلطة التنفيذيّة بل وعلى الدولة وهيبتها.
مؤسّسات الدولة الاقتصاديّة والسياسيّة تمّت التضحية بها عبر قرار إثر قرار. أهداف مثل هذه القرارات الارتجاليّة لم تتجاوز تلبية مصلحة ذاتيّة عابر. من أجل منح ثقة لمسؤول أو إرضاء لمستثمر ما. الثمن كان غالياً للغاية!
حتّى الصحافة الرسميّة وشبه الرسميّة تحوّلت إلى أبواق غير مجدية. كارثة حقيقيّة ألمّت بالدولة ومؤسّساتها وسلطاتها الأربعة. كلّ هذا من أجل ماذا ؟ حقّق بعض المتنفّذين رغباتهم وانتفعوا للحظة.. هل يستحقّ هذا النتيجة التي آل إليها الأردن ؟!
القادة الحقيقيّون هم من يبنون الأوطان. يفكّرون بالمستقبل ويمضون ببلادهم قدماً. هنا يمكنهم التحدّث بصلابة عن هيبة الدولة. الدولة لا تبنى دون مؤسّسات، فما أبعد تحويل هذه المؤسّسات إلى مجرّد أدوات عن فكرة بناء الأوطان!
هذه العقليّة التي لا تدرك ما هو أبعد من نزوة ملحّة، بدأت بمحاولة تفكيك المنظومة القيميّة للمجتمع، بعد أن جرّدت مؤسّسات الدولة من هيبتها. مع الأسف الدولة والمجتمع باتا في مهبّ ريح أهواء ارتجاليّة. لم يكتف المطبخ السياسي بتصفية المؤسّسات التي تبرّر وجوده، بل عمد إلى محاربة المعلّم وشيطنته، من أجل حالة "جكر" ترفض الإصغاء، الآن يريدون تدمير بنية اجتماعيّة أساسيّة وهدم مفهوم التربية والتعليم برمّته. من أجل ماذا؟
إلى هذه الدرجة وصل صنّاع القرار الذين حملوا معاول هدم قيمة التربية والتعليم في غيّهم ومغامراتهم المعاندة! من سبيل التمسّك بالعنت الرسمي المتنكّر لحقوق المعلّمين بدأت السلطة بمحاربة المجتمع عبر النيل من بُناته الحقيقيّين!
استهداف المعلّم يا أصحاب الألقاب الرسميّة هو استهداف للأسرة والطفل وللمجتمع بأسره. قضيّة مطلبيّة يناضل المعلّم من أجلها تدفعكم إلى هدم عماد بناء الحضارة المتمثّل بالمؤسّسة التعليميّة؟! أنسيت يا سعادة معالي عطوفة المسؤول أنّه لولا المعلّم لما وصلت إلى ما وصلت إليه؟ أنسيت من الذي علّمك وضبط سلوكك عندما كنت مراهقاً لتصل إلى منصبك؟! هذا المنصب الذي بدأت باستغلاله في محاربة المعلّم!!
المؤسّسات التي قام المطبخ السياسي بهدم أسسها وتحويلها إلى مجرّد أدوات لحقيق مآرب عاجلة، يتمّ تسخيرها اليوم لضرب أساس المجتمع الأردني. السلطة لم تدّخر أداة واحدة في محاربة المعلّم. بصراحة السلطة متّهمة اليوم بالعمل على تقويض النظام الاجتماعي، هذا ما يتطلّب التحقيق في قضيّة أمن دولة، وليس شعار رفعه متظاهر في يوم ما!
مطالب المعلّمين المشروعة تستوجب محاورتهم والعمل على تحقيق ما يناضلون من أجله، فهذا ما سينعكس إيجابا على مخرجات العمليّة التعليميّة وبالتالي على مستقبل الوطن، أمّا محاربة المعلّم من أجل تحقيق مآرب فلان أو من أجل "الجكر" فحسب، فهو محاربة وطن ومصادرة لمستقبله.
المفجع أنّ الأمر وصل إلى استخدام المؤسّسة الدينيّة لمحاربة المعلّم والمربّي الفاضل! فمن تحريم رواتب المعلّمين المضربين إلى استخدام المساجد (دور العبادة) في الحرب الإعلاميّة التي تشنّها السلطة على مستقبلنا! تناقض غريب يكمن في استخدام الؤسّسات الدينيّة في محاربة من يربّي الأطفال على القيم النبيلة ويغذيهم من زاد المعرفة!!
المعلّم الذي انتصرت إراته وانتزع نقابة تمثّله وتدافع عن حقوقه، قادر على الاستمرار في نضاله المطلبي المشروع، المنسجم تماما مع المصلحة الوطنيّة العليا، والتي يتطلّب تحقيقها الارتقاء بمخرجات العمليّة التعليميّة. المعلّم الذي حفر المعرفة والقيم النبيلة في وجداننا أطفالاً سيستمرّ، رغم كلّ الأدوات التي تسخّرها السلطة ضدّه.
أن تتحوّل مؤسّسات الدولة إلى أدوات تستهدف المعلّم، باني المستقبل والحضارة، هو ما يمكن تسميته بالفاجعة. المطبخ السياسي يعمد إلى ستهداف المجتمع، بعد أن قام بتصفية وتطويع مؤسّسات الدولة، هذا هو المشهد اليوم. لقد آن لهذا العبث أن ينتهي، وعلى صنّاع القرار النظر إلى ما هو أبعد من قراراتهم واجراءاتهم الارتجاليّة التي تضحّي بالمستقبل من أجل لحظة عابرة. من حقّك أن تضحّي بمستقبلك أنت من أجل ما يلحّ عليك آنيّاً، ولكن لا حقّ لأي كان في التضحية بمستقبل وطن.
النتيجة التي أوصلنا إليها تعنّت السلطة هي أن نضال المعلّمين لم يعد نضالاَ مطلبيّاً خاصاً بهم، بل هو نضال مجتمع بأكمله، وانتصار المعلّم –الأكيد- سيكون انتصارا لكلّ أردني يدافع عن أسس بقاء مجتمعه في وجه سلطة ضحّت بكلّ مؤسّساتها من أجل مآرب شخصيّة مؤقّتة.