معركة داعش ومعركة مجلس الأمة
فريق ركن متقاعد موسى العدوان
ومن المؤسف أنه في الوقت الذي كانت تخوض به العراق وأمريكا معركة شرسة ضد داعش على الأراضي العراقية خلال الأسبوع الماضي ، كان مجلس الأمة الأردني يخوض معركة من طراز آخر ، هي معركة الرواتب والتقاعد لأعضائه في تحد صارخ لمشاعر المواطنين .
لقد سنّ مجلس الأمة تشريعا جديدا يسمح بموجبه لعضو مجلس الأمة ، ممن أمضى خدمة سبع سنوات فقط في مؤسسات الدولة ، تقاضي راتبا تقاعديا مساو لراتب الوزير مدى الحياة ، وبأثر رجعي يمتد إلى أربع سنوات سابقة . هذا بالإضافة إلى جواز الجمع بين راتبين خلال عضويته في المجلس . لا أعرف بأي حق يبدد السادة أعضاء المجلس أموال الدولة على أعضائه ، وكأننا في دولة نفطية لديها فائض من الأموال ، لا دولة فقير ترزح تحت مديونية فلكية .
الموظف المدني أو العسكري عليه أن يمضي 18 عاما على الأقل في الخدمة العامة مقرونة بالعمر لكي يستحق الراتب التقاعدي ، على أن يكون قد أكمل اشتراكه في صندوق التقاعد المختص طيلة تلك الفترة . فكيف يُمنح عضو مجلس الأمة راتبا تقاعديا طالما أنه لم يُمضِ نصف الحد الأدنى لفترة التقاعد المفروضة لقرينه في مؤسسات الدولة ؟ ولم يقدم اشتراكاته المالية لصندوق التقاعد ؟ أمر غريب من نوعه يشكل سابقة لم تحدث في أي دولة متخلفة أو متقدمة من دول العام . وهذا يشير بأن أعضاء مجلس الأمة يعيشون في عالم آخر غير عالم الأردنيين .
لو أجرينا مقارنة بين عضو مجلس الأمة ذو خدمة ال 7 سنوات في ظروف مريحة ، فيحصل بعدها على راتب تقاعدي يتجاوز 4000 دينار ، وضابط ميداني برتبة لواء أمضى ما يزيد على 30 عاما في خدمة القوات المسلحة ، وفي ظروف عسيرة كان خلالها معرضا للخطر في كل لحظة ، إضافة لدفعه جميع اشتراكاته في صندوق التقاعد ، سنجد أنه يتقاضى راتبا تقاعديا لا يزيد عن 1400 دينار .
وهنا يتجلى الظلم الكبير الذي يحيق بالعسكري مقارنة بعضو مجلس الأمة ، من حيث طول مدة الخدمة وظروفها القاسية والمردود المادي الذي يحصل عليه ، إذا حالفه الحظ ولم يكن مصابا أو مشوها خلال أدائه لواجباته العسكرية . ولابد هنا من التذكير بالمعارضة القوية التي أبداها أعضاء المجلس تجاه مطالب المعلمين ممن تقترب رواتبهم لخط الفقر .
نتذكر بالإجلال والتقدير أعضاء مجلس الأمة في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي ، والذين لم يتجاوز عددهم 80 عضوا ، فكانوا يتقاضون مكافأة شهرية تتوقف عنهم بتوقف دورات المجلس ، ولا يتقاضون بعدها أية مكافآت مالية أو رواتب تقاعدية . وقد رفضوا أن تحمل لوحات سياراتهم الخاصة عبارة مجلس الأعيان أو مجلس النواب ، باعتبارها تمييزا لهم عن بقية أفراد الشعب احتراما منهم لناخبيهم .
ولكن مجلسنا الموقر يتفنن في استنباط المكاسب الشخصية لأعضائه الذين يبلغ عددهم 225 عضوا ، دون مراعاة لتحميل موازنة الدولة أعباء إضافية . وليس من المستبعد أن يسن المجلس تشريعا جديدا يسمح لأعضائه بالسفر إلى سطح القمر بحثا عن منافع جديدة لهم .
إن مهمة مجلس الأمة كما هو معروف تتلخص في ناحيتين هامتين : هما التشريع والمراقبة . فالأولى استغلها المجلس لمصلحة أعضائه أبشع استغلال . وأما الثانية فهي غائبة ولا تثار إلا في قضايا استعراضية أمام المواطنين . وبهذه المناسبة نستذكر جلالة الملك حسين رحمه الله ، الذي كان عند ملاحظته لخروج المجلس عن جادة الصواب ، يستدعيه ويوجهه إلى الطريق القويم بصورة حازمة .
أما اليوم فنلاحظ أن مجلس الأمة يُصاب بالشطط ويقوم بتصرفات بعيدة عن الحكمة ، فيوزع الهبات المالية على أعضائه وعلى مدراء مكاتبهم دون مبرر ، ويرسل وفود الترضية النيابية في زيارات خارجية لمختلف أصقاع الأرض دون أي فائدة تذكر ، ويشرّعون لأنفسهم بما يحرّمونه على غيرهم . ومع هذا لا نجد من يردعهم عن ممارساتهم غير المنطقية .
القاعدة التي تقول : " بأن العدل أساس الحكم " أصبحت بوجود هذا المجلس غائبة تماما ، وهو المجلس الذي يفترض به أن يكون قدوة حسنة للمواطنين ، في سلوكه وفي محافظته على مصالح الدولة ، ومكافحة الفساد ، والسعي لتحقيق العدل بين الناس في مختلف مواقعهم . وهكذا فقد اختلت موازين العدالة ، وساد الفقر ، وانتشرت البطالة ، وازدادت الرشوات والسرقات في مختلف مفاصل الدولة ، وفقد الناس الأمل بتحسن احوالهم المعيشية ، الأمر الذي يدفعهم إلى التطرف وارتكاب الجريمة .
داعش هي حزام ناري يحيط بنا من الشمال والشرق ، وتتبني أيديولوجية متطرّفة ، تدعو إلى إقامة دولة خلافة إسلامية تحقق العدل وتحارب الفقر والبطالة بين الناس حسب ادعائها . وهذه أفكار عابرة للحدود تلاقي صداها لدى الفقراء ومن يشعرون بالتهميش وفقدان العدل ، فقد تدفعهم بالتعاون مع خلايا نائمة إذا وجدت لتشكيل ( داعش الداخل ) إذا ساءت الظروف لا سمح الله .
وإن كانت القوات المسلحة قادرة على التصدي ( لداعش الخارج ) ، فإن أعضاء مجلس الأمة ( أصحاب التقاعد الوزاري ) غير قادرين على التصدي ( لداعش الداخل ) إذا لم تعالج أسباب الشكوى من جذورها ، ويتحقق العدل والمساواة بين الجميع . ويجب أن نتذكر في هذا السياق بأن الرصاص لا يقتل الفكر الذي يتسرب إلى الناس ، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والمحطات الفضائية .
المخلصون في هذا الوطن يقدمون نصائحهم قولا وكتابة بصورة متواصلة ، ولكن الحكومات تصم آذانها وتغمض عيونها ، لأنها لا تريد أن تسمع أو تقرأ فتلجأ إلى أسلوب النعامة تاركة الحبل على الغارب . ولكل رئيس إقطاعيته يصول ويجول فيها كما يشاء دون حسيب أو رقيب .
إن الأمل معقود على جلالة الملك في أن يرد هذا التشريع المُكْلف على خزينة الدولة ، كما رده في مناسبة سابقة ، لا سيما وأن أعضاء المجلس سيتزايدون سنة بعد أخرى .
كلمة أخيرة أختم بها فأقول : إن الأرض خصبة ومهيأة لتقبل البذور الخبيثة ، التي قد تنبت على سطحها في أية لحظة . وكل ما أخشاه أن يأتي يوم علينا نواجه به شريحة من المواطنين ، يحملون سلاحهم ويجهرون بأصواتهم قائلين : " أهلا داعش على أرض الرباط والجهاد " . وعندها لن ينفع الندم . . !