تجربة الشاعر مهدي نصير في منتدى الرواد الكبار
في إطار برنامج منتدى الرواد الكبار الثقافي "مبدع وتجربة" قدم الشاعر مهدي نصير مجموعة من القصائد عكست تجربته الابداعية، فيما قدم الناقد د.زهير توفيق قراءة نقدية حول التجربة في الامسية التي أدارها المدير التنفيذي للمنتدى عبد الله رضوان، في مقر المنتدى في ام السماق.
د.زهير توفيق مهدي نصير شاعراً
شاعرنا سليل مدرسة الحداثة والتجريب في الشعر العربي المعاصر، بينه وبين روادها من يوسف الخال وأدو نيس علاقة وثيقة, على مستوى التفكير والممارسة الجمالية , بما يتجاوز التناص إلى الاستلهام الخفي والتماثل البعيد .أو ما يسميه الفيلسوف فيتغنشتين "التشابه العائلي". وما يؤكد لنا هذا الاستنتاج الذي يقارب المجازفة , هو تجريبه المتواصل ودأبه لتجاوز ذاته وتجاوز تقاليد شعرية استنفذت طاقتها على الاستمرار في الشعر العربي المعاصر.
تعرفت على الشاعر مهدي نصير شابا في نادي أسرة القلم في العقد الثامن من القرن الماضي، وحدتنا أشياء وأشياء. كان مهدي قارئا نهما طموحا لعمل شيء يتجاوز ذاته، كان يجنح للتفكير بالشعر والفلسفة. كان مهدي نصير ناقدا بالفطرة ومفكرا بالقوة أضحى شاعرا بالفعل، فمارس فكره ونقده شعرا وتلك مفارقة تتطلب منا الاعتراف بالواقع وقراءة مهدي كشاعر حقق ذاته بالتحديث والتجريب.
لقد جنحت عواطفه وعصفت به تجربته الفكرية والإبداعية وظروفه الشخصية فدعته تارة للتوقف والانزواء ونسيان الأمر، فتوقف وانزوى بعيدا، لكنه بقي في سره أمينا لشيطانه الشعري حتى خرج علينا بركانا شعريا متدفقا ناضجا تجاوز بدواوينه الأربعة إشكاليات البداية والتشكيل ، وانبرى لإسماع صوته للقارئ المبدع المشارك في إنتاج النص وتحدى الناقد الجديد الذي يواجه شاعرية لا تصغي إلا لميراثها العتيد من القراءات والتجارب.
من أين ابدأ وماذا أقول في هذه العجالة عن شاعر يستهل إحدى قصائده قائلا:
"من أين ابدأ في الطريق
وأين ازرع خطوتي العمياء
أين أحط خيماتي
وابدأ رحلتي نحو التخوم الثائرة"
سأبدأ من الفلسفة, وانتهي بها، علني أجد متسعا من الوقت في القريب الآجل لقراءة تجربة الصديق الشاعر قراءة فلسفية نقدية مغايرة بأدواتها ومراميها للكشف عن مكنون ذاته ونصه الشعري.
كان الشعر وما زال قضية خلافية في الفلسفة، فمن الفلاسفة والاتجاهات ما طارد الشعر وطرد الشعراء من المعرفة اليقينية والعقل ومن المذاهب والفلاسفة الذين احتفوا بالشعر أيما احتفاء.
فالشعر عند أفلاطون محاكاة، بل هو محاكاة الظواهر الزائلة انتقاصا من قيمته، وعلى الشعراء مغادرة مدينته الفاضلة، وبلغت قسوة الفلسفة, ذروتها عند الوضعيين المنطقيين الذين اعتبروا الشعر معرفة خالية من المعنى، انه والميتافيزيقيا شيء واحد، وعلى الفلسفة الحقة التحرر من الميتافيزيقيا؛ أي التحرر من الشعر.
أما الفلسفة الألمانية المثالية فقد انحازت للشعر وانتصرت له، واعتبر مارتن هيدجر الذي قرأ شعراء ألمانيا قراءة فلسفية، اعتبر الشعر نوعا من المعرفة اليقينية أساسها الحدس الشعري الذي يفوق العقل في التوصل إلى اليقين.
لا يتفلسف الشاعر مباشرة، وإن فعل سقط وأسقط الشعرية، ولم يتبق منها شيء يغري القارئ بالرحيل إلى ما وراء ظاهر النص، وهذا حال الشعراء العرب في عصر النهضة وما بعدها الذين طرحوا أفكارا فلسفية للتأمل مباشرة ودون توسط مجاز أو صور مركبة بعيدة المنال، فجاء شعرهم وصايا وحكما مباشرة وتعليما أبويا فاقدا للشعرية والجمال. ومنهم شعراء المهجر وشوقي وحافظ إبراهيم والعقاد وغيرهم من رواد الشعر الحديث الذين فشلوا في استحقاق التجديد.
الشاعر الحقيقي كمهدي هو الشاعر الذي يضمر فلسفة وتأملا ويعكس بذلك عمقه الفكري ونسيجه الشعري المعقد الذي تتداخل في نصه أصوات الشعراء والمفكرين وثيمات الكتب المقدسة والملاحم والأغاني الشعبية, وروح الشعب والأساطير, والحكم والتجارب الغنوصية والوصايا البكر والمراثي والنقوش والتجارب الذاتية الاستثنائية وسير الأنبياء .
وربما يعترض البعض قائلا: أين الميتافيزيقيا والفلسفة من الشعر؟ فنقول: الشاعر الحقيقي لا يتفلسف مباشرة، بل يوحي بالأسئلة الوجودية التي تستبطن شاعريته وأدواته الشعرية بالصورة الشعرية المركبة التي تعيد القارئ إلى ذاته للتأمل فيها، وفي معطيات وجودها، فالشعر كما يقول ادونيس: "ميتافيزيقيا الذات". فالصورة الشعرية الحقيقية الحداثية هي الصورة المركبة التي تحمل رؤيا , وتستهدف تأملا يتطلب كثافة رمزية ولغوية منقطعة النظير وتراكيب وإيقاعات تعكس أسرار اللغة العربية وإعجازها, مما يجعل الفلسفة مضمرة بعيدة كل البعد عن المباشر والجزئي ليلتقي بذلك الشاعر والفيلسوف لقاء موضوعيا في الكليات كما يقول أرسطو.
فتختفي الفلسفة ومحمولاتها تحت طبقات وطبقات من الغموض المحروس بالدهشة والاسطرة، التي تطارد الشفافية المشبوهة التي تشكل دعوة مجانية للقارئ والناقد لاختراق النص وتجريده من معنى المعنى.
ونحن نجزم بأن الدلالة الفلسفية لقصائد أي شاعر حقيقي بعيدة كل البعد عن متناول صاحبها نفسه، فكل شاعر حقيقي يحمل رؤية فلسفية أو تأملا وجوديا أصيلا يختزن تلك الرؤيا في أعماقه وتبقى مضمرة إلى أن تنفجر لا شعوريا ويتحول الشعور فيها إلى شعر، مثقلا بحمولته الفلسفية التي تحتاج لتأويل التأويل لفك شيفرات الشاعر وفهم ما هو ابعد من تفسير النص، الذي يقف عند حدود الوعي، أي مراد الشاعر وهدفه إلى معنى المعنى الكامن في اللاشعور والإشارات الضمنية وأحيانا المسكوت عنه الذي عجز الشاعر عن الجهر به.
يتقدم النقد الفلسفي إلى جذور الأشياء، فالفلسفة كبومة منيرفا التي تأتي متأخرة كما يقول هيغل، وكذلك النقد الفلسفي الذي يأتي متأخرا بالمعنى المعرفي بعد النقد الأدبي، الذي يفسر ويقارب النص لذهن القارئ لينخرط (النقد الفلسفي) في معنى المعنى أي تأويل التأويل واستنباط المعرفة العقلية الواعية من اللاشعور الذي سيطر على الشاعر ودفعه لكتابة ما كتب.
انه التأويل البعيد بلغة الجرجاني, وهو الحد الأقصى لمقاربة النص الشعري بعد الفهم والتفسير الذي يستمد مرجعياته ومفرداته من جدلية التفكيك والسيميائية والهرمونتيقا وغيرها علما ان النقد الحديث ذا سمة فلسفية بامتياز .
تحتفل القراءة الفلسفية بالإزاحات وتراسل الحواس والتضمين العشوائي والإرداف اللغوي (المفارقات)، وقد حفلت قصائد مهدي بتلك المفارقات مما استلزم تأويلا للتأويل، فهناك الماء الأسود ومعبد الخمر والغامض المستحيل والأحرف الزائفة ومعطف الثلج والنضارة المعتمة وغيرها الكثير.
ويتطلب هذا الجهد التأويلي في البحث عن معنى المعنى الانطلاق من كون التأويل نفسه جزءا لا يتجزأ من النص فلا هو إضافة ولا تابع , بل هو ماهية النص وذات الشاعر اللاواعية.
وردا على استغراب ما نقول عن تلاقي الفلسفة والميتافيزيقيا بالشعر- ونعذر استغراب وتساؤل البعض - فشكليا لا لقاء بين الشاعر الحساس والفيلسوف العقلاني، فالأخير يطارد الحقيقة الكلية والضرورية بالعقل والبرهان العقلي ويستخدم لغة واضحة لا لبس فيها، لغة المفاهيم البعيدة عن الغموض والإبهام أساس لغة الشعر.
أما الشاعر فأحكامه جمالية وغايته الجمال في ذاته، وقد دفعت تلك المواصفات سارتر لاستثناء الشاعر وشعره من الالتزام , رغم وجود رسالة للشاعر في نهاية المطاف.
أما أدواته فالخيال والتخيل والتأمل في الذات، ولكنه والشاعر وهذه كلمة الفصل في الموضوع، أنهما يلتقيان معا بقراءة العوالم الممكنة ويغوصان في الممكن والمستحيل بعيدا عن عالم لفعل القائم، إنهما يرحلان معا من عالم الكينونة إلى عالم الصيرورة .
تشكل الأسطورة ورموزها مادة التفلسف الأساسية في الشعر، ودونها يفقد النص الشعري بطانته ويصبح شفافا مستسلما أحادي الاتجاه لا يغري قارئا أو ناقدا متمرسا, فباطن النص كظاهرة لا يعول عليه.
لقد اكتفى الشعراء الرواد الذي هاموا بالأساطير بالمنهج التاريخي فاستخدموا الأسطورة كما هي في بنيتها ودلالتها وشخوصها ورموزها تقليدا واستعراضا لمثاقفة , ومن دون الخوض في التفاصيل والأمثلة, نقول: أن مهدي تفلسف بالأسطورة وأسطر واقعه، وتأمل قضايا إنسانية كبرى كالغربة والاغتراب والتضحية والحب والتواصل والموت والمعاناة، برموز أسطورية أدت المعنى أو يزيد، وترددت في قصائده رموز الحب والماء والنار والبعث والخلق والفداء والسفر والاغتراب، فهناك جلجامش وغمبايا وانكيدو ويوحنا المعمدان والعلقمي وأبي رغال والكهف والجب وادونيس وعشتار، فالأسطورة أداة من أدوات الفكر والشعر كما يقول كلود ليفي شتراوس ، ووظف الكثير من الرموز الطبيعية والثقافية التي يتطلبها النص.
واعتمد مهدي نصير منهجا تركيبيا للتعامل مع الأسطورة ورموزها، فتراه قد حذف وأضاف لمكوناتها شيئا أو عكس مغزاها ودلالاتها، وفي مواقع أخرى أعاد تركيبها من جديد، وكلما اقترب من القول الفلسفي كلما أمعن في المجاز والصورة حاذيا حذو ادونيس نقلا عن هيدجر بقوله "عندما تتوهج فينا الحقيقة لا نتكلم إلا مجازا".
وفي غمرة ذلك التأمل ترك لنا خيطا رفيعا هاديا من بقايا الأسطورة يقودنا إلى معنى المعنى، فالأسطورة كما يقول سقراط مادة التفلسف للشاعر الأصيل.
يقول مهدي مستوحيا من أسطورة ادونيس:
قتلت قديما
بأظلاف جمهرة من رعاة
وما زال هذا الدم المتورط فيّ طريا
وما زلت اقتل كل ربيع
بأظلاف جمهرة من خنازير برية
ورماح غزاة .
ط س ميم
انه لكتاب من الماء والطين
تأنى قليلا ودعني ارتب أوراق هذا اللقاء
دعني أشكل بعض الملامح
دعني أفسر بعض النقوش وبعض النصوص وبعض الجمل.
.....
الشاعر مهدي نصير
امرأةٌ ثموديَّة
(1)
جلستْ بقربي مثلَ دوريٍّ ثموديٍّ
تبلَّـلَ وجهُهُ بالمطرِ الحجريِّ والرِّيحِ الجنوبيَّةِ
خائفةً ومرتبكةْ .
(2)
السَّماءُ صحراءُ هائجةٌ
كعباءةِ امرأةٍ تُمزِّقها
شتاءاتُ ثمود .
(3)
حبيبتي
لم يبقَ لي إلا أصابعُكِ الصَّغيرةُ
والعيون السُّودُ تلمعُ في الظَّلام .
(4)
يقولُ أبي : ولي ثأرٌ سأدركهُ
ولي نارٌ سأوقدها
ولي ورداتُ في البَريَّةِ الجرداء
سوفَ أسوقُ غيمَ الأرضِ من قرنيهِ
كي يسقي براعمها .
(5)
هل تُدركينَ كم أنا أحتاجُ
عينيكِ المُبلَّـلـتـيـنِ بالصحراء .
(6)
في غُرفةٍ باردةٍ
أنمو على جُدرانها كالملحِ
كانَ الصَّدءُ الأسودُ يتبعني إلى الأسفلِ في ضجرٍ
كحبرٍ كانَ يكتبُني على كِسَرٍ من الطِّينِ المُكوَّمِ فوقَ جلدي
كالأهلَّةِ والرُّجوم .
(7)
يا امرأةً غابتْ ولم أزل أذوقُ من يديها التَّمرَ والحليبَ
أينكِ ؟
(8)
يا امرأةً تركضُ في الرِّيحِ وتعزفُ لي أغانيها الثَّموديَّةَ في الليلِ
وتسكبُ ماءَها المنقوشَ في قِرَبٍ من الجِلدِ الموشَّحِ
بالرِّياحِ الصَّرصَرِ
والنُّوقِ والماءِ الذي يهطلُ فوقَ
جِلديَ المجدور .
(9)
عودي إليَّ مرَّةً واحدةً كالمُهرةِ السَّمراءِ :
قد يتوقَّفُ التَّاريخُ حينَ تحضرين .
(10)
قد يكتبُ المطرُ القصيدةَ فوقَ طينِ الليلِ
إن جئتِ
وقد أكتبُها حينَ أذوقُ طعمَ عنَّابِكِ
في الصَّباح .
مهدي نصير/ الحصن 3-2-2012
سهرة في غابةِ خمبابا
(1)
حبيبتي
الغابةُ تعزفُ فيها الرِّيحُ
وخِمبابا ينفثُ ريحاً صفراءَ
ووجهُكِ مصلوبٌ على القصبِ العالي
وأنا أتسلَّلُ حولكِ وحدي
صديقي عادَ
والليلُ ما زالَ طويلاً
سأقطعُ من قصبِ الغابةِ ناياً
وأُغنّيكِ حتى الصَّباح .
(2)
حينَ سِرتُ على الدَّرَجاتِ وحيداً
بخُطْواتيَ اللاهثاتِ
تلعثمتُ
وارتطمتْ بيديَّ فوانيسُ شُرفتِكِ النائمةْ
تقدَّمتُ نحوكِ مُرتبكاً خائفاً
وتسلَّحتُ بالليلِ
كنتِ تنامينَ غارقةً بالأزاميلِ
شُرفتُكِ كانَ يسكنها غَبَشٌ
ومساميرُ أحصنةٌ برؤوسٍ مُشوَّهةٍ
تنفثُ من مناخرِها البَشِعاتِ دُخاناً غليظاً
كؤوسٌ من الحجرِ الخالصِ كانتِ انتصبتْ حولكِ كالمعالفِ
كانَ يُحوِّطُها حَرَسٌ برؤوسٍ مُدهَّـنةٍ بزيوتٍ
وتلمعُ في العتمةِ كالسِّراج .
(3)
كنتِ مُعلَّقةً
كنتُ أنظرُ نحوكِ
نائمةً كنتِ في حجرٍ
ويُحيطُ بوجهِكِ ألافُ من حَرَسٍ كالخفافيشِ
واليرقات .
(4)
تلعثمتُ ثانيةً
وارتطمتُ بجِذعِ نخيلٍ تدلّى
نكصتُ
وكانت يَداكِ تُطلُّ عليَّ
وكنتُ أُثبِّتُ أقدامي الرّاجفاتِ
وكنتُ أُحاولُ أن أثقبَ القَصَبَ الصامتَ
كنتُ أنفخُ فيهِ
وأُخفي بأعشابِهِ الرّيحَ والضوءَ
كنتُ إلى وجهِكِ الحجريِّ أُطلُّ
وألهثُ في الغابةِ
كانتِ القَصَباتُ الكثيفةُ تهتزُّ
كنتُ أُثقِّـبُها
وأخُطُّ إليها مساربَ للرّيحِ
كانَ الهواءُ يمرُّ بطيئاً
وكانت براعمُ تنبتُ تهتزُّ ثُمَّ تخفتُ
والرّيحُ تعبرُ قُربيَ تائهةً تتنقَّلُ
والقَصَبُ الصّامتُ يكبرُ
كنتِ تُطلّينَ من فوقِ شُرفتِكِ الحجريَّةِ نائمةً
وأنا أتنقَّلُ حولكِ
تُهتُ تعبتُ
ورُحتُ أُثقِّبُ رُحتُ أُنقِّبُ
رُحتُ أُقطِّعُ بعضاً من القَصَبِ اليابسِ
وأشُقُّ طريقاً صغيراً
أُثقِّبُ من حولِهِ القَصَبَ المُتعربشَ
مُرتبكاً مُنهكاً كنتُ
خاصرتي تتثقَّبُ
ويدايَ مُثقَّبةٌ ودمي يهطلُ
جسدي صارَ من قَصَبٍ أحمرَ
وورائي طريقٌ طويلٌ مُعشَّبةٌ
ويحُفُّ بها القَصَبُ المرتعشْ .
(5)
تجيءُ الرِّياحُ كماءٍ كموجٍ
وتعبرُ نحوي وتركضُ نحوكِ
ينبثقُ القَصَبُ المُتزنِّرُ بالعُشبِ
ينمو ويعلو ويعلو
ويكبرُ يخضرُّ يمتدُّ يلتفُّ
يركضُ خِمبابا إلى العَتمةِ
كانَ يسقطُ ينهَضُ يَضْمرُ يَـنْـحَـلُّ
كانَ يموت .
(6)
موسيقى كانت تَحُفُّ بِشُرفتِكِ العاليةْ
وجهُكِ الحجريُّ الـنَّـبـيـذيُّ العتيقُ كانَ يقومُ
أصابعُكِ الحجريّاتُ
ها هيَ تنهضُ من نقشِها
تتحرَّكُ
ها هيَ تصعدُ نحوَ المَنصَّةِ
ها هيَ تعزفُ
هأنذا أرقصُ
يَدُها في يدي وأصابعها ترتعشْ .
مهدي نصير الحصن 21-5-2011
نشيد الإنشاد الذي لحوران
(1)
كالحجلِ البَريِّ كانت
فمُها إبريقُ موسيقى
يداها مِطرقانِ أخضرانِ
من شآبيبِ الكَمان .
(2)
في مقهى الهافانا
كنتِ تضجِّينَ كزهرةِ رُمّان .
(3)
وشاحُكِ الأبيضُ كانَ مُعرَّقاً
بحُمرَةِ الدحنونِ في حوران .
(4)
في الليلِ كنتِ نجمةً
ومُهرةً حِنطيَّةً
وفي الصَّباحِ قهوةً بَريَّةً
وحقلَ تُفّاحٍ
ولوزاً ودُمىً خشبيَّةً
وغابةً من السَّجاجيدِ الملوَّنةِ الصَّغيرةِ
والإبَرْ .
(5)
من البنفسجِ الشَّفيفِ
كانَ شالُكِ الصوفيُّ
كانَ ينهضُ مُخلِّفاً ورائَكِ
حقلاً من الناياتِ
والمطرْ .
(6)
على أصابعِكِ الطَّويلةِ
كانَ يثغو الماعزُ الجبليُّ
فوقَ شَعرِكِ القَصيرِ
كانتِ الخيولُ تصهُـلُ
وفوقَ سَهلِكِ الفَسيحِ كانتِ السنابلُ الحنطيَّةُ
والقمرُ الطينيُّ والغزالةُ العجوز .
(7)
في الصَّباحِ
كانتِ الجِداءُ السُّودُ والخِرافُ
تَصطفُّ أصابعاً صغيرةً
على صندوقُكِ الخشبيّ .
(8)
حبيبتي
حزينةً كنتِ كياسمينةٍ
في ذلكَ اللقاءِ في مَقهى الشَّبابيكِ الطَّويلةِ
والمُطلَّةِ نحوَ شارعٍ عجوز
كانَ المطرُ القارسُ
كانَ وجهُكِ كانت يَداكِ
كانتِ العينانِ تستيقظُ في العتمةِ
مِثلَ زهرةِ الخُشخاش .
حبيبتي
حزينةً كنتِ
وكانَ القمحُ في سُهولِكِ الطينيَّةِ
كانَ هزيلاً أحمرَ
كانَ ينزُّ من ثُقوبٍ سَبعَةٍ
وينزفُ في السَّهلِ فوقَ الطِّينِ
والأعشاش .
(9)
كنتِ خائفةً وغاضبةً وترتعشين
كنتِ كانتِ العينانِ تُزهرانِ تشتعلانِ
والفَرَسُ القديمةُ تصهلُ
تبحثُ عن يَديَّ في العتمةِ
كانت تركضُ فوقَ سُهولِ الطِّينِ
كنتِ تركضينَ نحوَها
وكنتِ تنتفضين .
مهدي نصير