عمّان ودمشق: الدم والهدم
بالضرورة ما يحدث في سورية يمسّ أمننا الوطني في الصميم، من جميع الزوايا. فعلاقتنا وتداخلاتنا تتجاوز الجوار الجغرافي، هي نسيج مشترك، إنسانياً وتاريخياً وجغرافياً. الدم نفسه، والمصالح لا تنفصم.
خلال الخمسة عشر شهراً الماضية (منذ انبلاج الثورة) اختلفنا
– أردنياً- في قراءة الثورة والتفاعل معها، فكان للدولة قراءتها، ولكلٍّ من أنصار الثورة والنظام قراءتاهما. لم يكن الاختلاف بيننا على الأهداف ولا المبادئ، عموماً، فلا أحد – مثلاً- ضد الشعب السوري الشقيق، ولا مع انهيار "الدولة" (وليس النظام، فجوهر الاختلاف هو: فيما إذا كان هذا النظام قابلاً للإصلاح أم لا؟ وفيما إذا كان يمكن لنا أن نستهين بشلالات الدماء والإهانات والبنية الأمنية له خشية من تداعيات الانهيار والحرب الأهلية والأجندات الغربية أم لا)!
بعيداً عن المتطرفين، غلّب اتجاه نخبوي واسع كفّة المؤامرة الدولية على سورية، ليقف مع الأسد، واستذكر "محور الممانعة" ودوره في القضية، وضرورة حماية "السمة العلمانية" من شبح "الأصوليين". في المقابل؛ غلّب كلٌّ من التيار الإسلامي والشريحة الواسعة في الشارع حق الشعب في تقرير مصيره، وتجريم الأساليب اللاإنسانية في تعامل النظام مع المطالب المشروعة، ورفض المقايضة بين "الممانعة" والديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة وبكرامة الإنسان السوري والقبول بحكم "الأمن الفاسد" الحديدي.
أمّا اليوم، فينفتح المشهد السوري على وقائع وتطورات جديدة؛ صراع مسلّح، فوضى، ونذر حرب أهلية، ومجازر همجية، ولغة طائفية تؤجج المخاوف المتبادلة، ما ينذر بـ"السيناريو الأسوأ"، الذي يشكّل أخطر تهديد للسلم الأهلي للأشقاء ولأمنهم الوطني، وللمنطقة، وسنكون هنا، من أكثر المتأثرين بما يحدث في دمشق.
اختلافنا على النظام السوري لم يعد مجدياً، فالبُنية الحالية انهارت، والحل العسكري فقد توازنه، واستمرار الحال بات من المحال، والأسد راحل لا محالة، لكن المهم هو اليوم التالي؛ كيف سيبدو المشهد السوري؟! لم يعد السؤال المطروح: فيما إذا كنا مع الثورة أم النظام؟ إنما حول خطورة الفوضى ونذر الحرب الأهلية، والدماء والمجازر البشعة، ووضع اللاجئين الفلسطينيين المقلق جداً، واللاجئين السوريين لدينا، وأخيراً تداعيات ذلك على الأردن.
في هذه اللحظة الفاصلة سيكون العامل الحاسم قدرة الثورة على الإمساك بأهدافها الكبرى، في التحرر والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وألا تنجرف إلى خطاب طائفي للانتقام من المجازر المروّعة الأخيرة، وأن يكون الأفق حلاًّ وطنياً سياسياً.
أحسب أنّنا - بما نملكه من علاقات وثيقة ومصالح مترابطة مع القوى السورية المتصارعة والمتنوعة- يمكننا إن قرّبنا المسافات فيما بيننا وخرجنا من الاستقطاب إلى بناء موقف مشترك لمجتمعنا المدني وقوانا المختلفة أن نخاطب السوريين بلغة الوطن والدولة والأهداف العليا، بعد أن استطاعت الثورة تقديم نموذج استثنائي غير مسبوق.
يمكننا - على الأقل- المساهمة في أدوارٍ جانبية مرتبطة بتعزيز الفتوى الدينية في السلم الأهلي، والصوت المشترك للتحذير من الصدام الطائفي (مستقبلاً)، والقيام بوساطات بين الطوائف والقوى السورية، لتجنب الاقتتال، عبر العلاقات الوثيقة اجتماعياً وسياسياً، ويمكننا القيام بأدوار لمساعدة اللاجئين الفلسطينيين على تجنب مصير مقلق. في الشمال زلزال كبير له ارتداداته على المنطقة بأسرها، والشرط الرئيس لبناء الخيار الأردني الجيّد هو صلابة الجبهة الداخلية وتماسكها. ذلك يلقي بالكرة - في الساعات القليلة- في ملعب الدولة، إذ من المفترض أن يتم إقرار قانون الانتخاب المعدّل، غير المقبول شعبياً وسياسياً، ما سيفجّر الأزمة الداخلية ويفاقمها، وهذا ما لا نحتاجه، تحديدا هذه الأيام، مع تداعيات الثورة السورية التي أثبتت، كذلك، أنّ المنظور الأمني - من دون أفق إصلاحي وتوافقي عام- لن يصلّب الجبهة الداخلية، بل سيمزّقها!
(الغد)