أعتذر منكم!
لم يرف جفن لعشرات السياسيين الأردنيين وهم يكتبون برقية تعزية لسفاح دمشق، بمقتل أعضاء "خلية الأزمة"، المسؤولة عن إدارة حرب الإبادة والتصفية بحق الشعب السوري، ليصفوهم بـ"القادة الشهداء". وهي الرسالة التي طارت بها وكالة أنباء "سانا".
مرسلو البرقية كتبوا للسفاح قائلين: "نشارككم الحزن والغضب ونواسيكم ونواسي شعبنا الشقيق في سورية والأمة العربية باستشهاد القادة حسن تركماني وداود راجحة وآصف شوكت وهشام اختيار، الذين انتقلوا إلى رحاب ربهم تبارك وتعالى وهم في اجتماع مخصص لدرء ما تواجهه سورية من مؤامرة سقطت في ثناياها شعارات الإصلاح والسلمية والمطالب الشعبية..".
هكذا، إذن، بجرّة قلم، تصبح التضحيات والمظاهرات والمسيرات التي خرجت منذ عام ونصف العام في سورية، وما تزال، والدماء التي جرت في ميادين دمشق، والجرائم والمجازر التي ارتكبت، كل ذلك "مؤامرة"، بينما يوصف من أصدروا أوامر القتل والتعذيب والإبادة والتنكيل بالشعب بالأبطال؛ من زجّوا بالجيش السوري في معركة ضد شعبه، واستخدموا الطائرات في قصف الأحياء والشوارع، وقتلوا الآلاف كما يقتلون النمل والحشرات، وأوغلوا في دماء الشعب، واغتصبوا حرمة البيوت، ونهشوا لحم الصغار، بلا أدنى رحمة أو شعور بالمسؤولية!
يتناسى هؤلاء أنّ المسيرات والمظاهرات كانت سلمية وبريئة، بل انطلقت عبر الأطفال والنساء، واستمرت أكثر من عام على هذا النحو، قبل أن يثخن فيهم النظام قتلاً واعتقالاً وإهانة وتدميراً؛ فبدأت الانشقاقات داخل الجيش بعد أن وجد أبناؤه أنفسهم بين أن يقتلوا شعبهم أو يُقتلوا، فاختاروا الانشقاق لحماية المدنيين والدفاع عنهم، قبل أن يضطر المواطنون أنفسهم إلى التسلح دفاعاً عن أعراضهم وكرامتهم، وبعد أن تخلّى المجتمع الدولي عنهم، ولم يبق خيار غير "حرب تحرير شعبية"!
بالطبع، الأسماء التي نعرفها من الموقعين على العريضة هم من زوار وأحباب نظام السفاح في دمشق، ومن نجوم إعلامه الرسمي، ولا أريد أن أدعوهم للذهاب إلى حمص وحماة ودير الزور وإدلب ودرعا، بل أضعف الإيمان أن يتوجّهوا -إن كانوا صادقين في سعيهم للحقيقة- إلى مخيمات اللاجئين السوريين في الأردن، حيث آلاف العائلات الهاربة من الجحيم، ليسألوهم (بعيداً عن "مؤامرات الجزيرة والعربية وأموال البترودولار، وتركيا، والمؤامرة الكونية"..) عما حدث معهم، وعن جريرتهم الكبيرة التي استحقوا عليها إحدى أبشع محارق التاريخ، وعمّا تعرضوا له من انتهاكات، قبل أن يتباكى هؤلاء السياسيون على أربعة أشخاص أثخنوا في الملايين!
بالضرورة، لا أتوقع من هؤلاء أن يقبلوا الاقتراح، إذ لم يسلم الأشقاء السوريون منهم. لكن أجدني مضطراً لأعود وأعتذر منكم لأنّني وصفتُ ( في مقالتي قبل يومين) الخلاف بيننا وبين نخبٍ مؤيّدة للنظام السوري بأنّه خلافٌ على قراءة الأحداث وتحليلها، وليس على الهدف أو الموقف العام من سورية. فعند إعادة النظر في مواقف هذه النخب، أكتشف أنّ هذا "الوصف" فيه تسطيح واختزال مخلّ! فالمشكلة معهم أعمق بكثير من ذلك، وتقع في صلب أفكارهم وسلوكهم السياسي، وربما الإنساني، وجوهر الاختلاف يكمن ابتداءً في مدى إيمانهم باحترام حقوق الإنسان والتنوع والاختلاف، وحق الإنسان في تقرير مصيره، والحريات العامة، وفي قبولهم بالديمقراطية كأساس للحكم!
الموقف من هذه النخب يتجاوز الأزمة السورية إلى فجوة عميقة وكبيرة معهم؛ فشريحة واسعة من مؤيدي النظام السوري هم من معدن النظام نفسه، نازيون وفاشيون، ولو حكموا لما اختلفت فعائلهم عن فظائع الأنظمة الاستبدادية الشمولية الدموية، وتاريخهم مسكون بالمؤامرات والتصفيات الدموية والسياسية، والإقصائية الأيديولوجية!
m.aburumman@alghad.jo
(الغد)