يعلنون علينا الحرب ونعلن عليهم الحب
لا أدري كيف استحضرتُ هذه الكلمات من كتاب الأديبة غادة السمان "أعلنتُ عليك الحب"، وأنا أشهد أحد أكثر المواقف غرائبية وفجائعية في تاريخنا العربي، إذ تقول: بكامل وعيي، أو بما تبقّى منه، بعد أن عرفتك، قرّرت أن أحبك، فعل إرادة لا فعل هزيمة (!)، إلى أن تقول: لا تصدق حين يقولون لك إنك في عمري فقّاعة صابون عابرة، لقد اخترقتني كصاعقة وشطرتني نصفين، نصف يحبك ونصف يتعذب لأجل النصف الذي يحبك.
أليس هذا المشهد الغرامي الصاعق هو ما يصف حالة النظام العربي الرسمي في علاقته المُلغزة مع العدو الصهيوني؟ من يصدّق أن هذا النظام، بعد كل هذا الدم الذي أراقه في فلسطين، وفي غيرها من بلاد العرب، لم يزل واقعاً في حبّه؟ ولم يزل يتحدّث عن "السلام الاستراتيجي"، والتعاون الأمني والاقتصادي؟ ما الذي فعلته "إسرائيل" لهذا النظام، حين تعلن عليه الحرب ويعلن عليها السلام؟ ثم من بقي في هذا الكيان يتحدّث عن هذا الشيء، بعد كل ما اقترفه وما يقترفه حتى ساعة كتابة هذه السطور، بل حتى كنس آخر أثر من بقاياهم من فلسطين؟
كيف نفهم هذا "السجود الملحمي" الوثني في حضرة رموز هذا العدو الذي يشبه سجود المستوطنين في باحات الأقصى الشريف، بين يدي جريمة هي الأكثر بشاعة وتوحشا في التاريخ المعاصر؟ ... ربما نفهم موقف الغرب وزعيمته الإدارة الأميركية التي وهبت القتلة مليون دولار عن كل "شهيد" فلسطيني قتلته على مدار عدوانها على غزّة (قتلوا نحو 45 ألف فلسطيني، وتلقوا نحو 45 مليارا من المساعدات الأميركية خلال 10 أشهر!). ولكن كيف نفهم موقف النظام العربي الرسمي الذي ما فتئ يؤمن بمستقبل ما مع كيان لم يعد فيه حتى عاقل واحد يتحدث عن سلام وتعاون وشراكة؟
رسميا، بعض رموز النظام العربي الرسمي "تدين" العدوان الصهيوني على غزّة والضفة الفلسطينية بأشد العبارات وأقساها، وعمليا، تعلن تمسّكها بما تسمّيه "خيار السلام الإستراتيجي". طبعا هناك من هذه الرموز من لم يكلف نفسه عناء الإدانة والشجب حتى، بل يطلق ذبابه وقنواته ومنصّاته الإعلامية للنيْل من المقاومة وتسخيف منجزاتها، والانتصار للعدو وتبرير عدوانه، إن المشهد الأكثر استفزازا هو التمسّك بـ "خيار السلام الإستراتيجي"، وسط كل هذا الدمار الوحشي، وسحق كل النصوص التي تضمنتها اتفاقات السلام تحت جنازير "الميركفاه" أما المشهد الأكثر قسوة ودراماتيكية، فهو تمسّك بعضهم بما يسمّونه "التنسيق الأمني"، وتقديسه كأنه وثن سياسي في وقت يستبيح العدو فيه كل مقدس فلسطيني، ابتداء من قبلة المسلمين الأولى وليس انتهاء بالدم البريء لأبناء الأرض المقدسة، فهو يمدّ "احترامه!" لكل ما هو موجود في الأرض الفلسطينية شجرا وحجرا وبشراً!
المشهد أكثر سوريالية من كل ما جنح إليه كافكا وما أنتجه خيال ملكي أفلام الرعب ستيفن كينغ وألفريد هتشكوك، فقد تدحرجت مفردات السياسة ومعادلاتها في العلاقة البينية بين النظام العربي الرسمي والعدو الصهيوني، من معادلة "الأرض مقابل السلام" إلى "السلام مقابل السلام"، وصولا إلى "الحب مقابل الحرب!". إنهم يقتلوننا ونحبهم، يصادرون الأرض ويقيمون المستعمرات ويطردون الناس من بيوتهم ومزارعهم ومراعيهم، ونحدّثهم عن خيار السلام الاستراتيجي.
أي لغز يحمله هذا الموقف العربي الرسمي، إلا أن يكون شريكا كاملا في الجريمة، وليس محرضا عليها فقط، أو مُيسّراً لارتكابها، وربما محرضا عليها، وتلك لحظة فارقة في تاريخ هذه الأمة، فقد قطع هذا النظام العربي الرسمي آخر خيط رفيع من علاقته مع شعبه، وأعلن الحرب عليه، في وقتٍ أعلن فيه الحب للقاتل، ولا ندري أي إكسير أو ترياق سيعالج هذا الجرح المريع، وبأي عين سيرى أبناء هذا الشعب من خذلوه وقاتلوه بعد أن تجاوز مرحلة "الحياد" إلى المشاركة الفعلية في الجريمة، ليس باتخاذه موقفا سلبيا أو متفرّجا على الجريمة، بل بمد العدو بكل ما يلزمه لإتمام جريمته وتوفير بيئة حاضنة لها، مع محاولة مستميتة لتخريب بيئة المقاومة والتحريض عليها بل الاستماتة في هزيمتها.
أعلنت عليك الحب، يقولونها للعدو ويترجمونها فعلا يوميا، وأعلنت عليكم الحرب، يقولونها لكل الشعب العربي، لا للفلسطيني فحسب، ويترجمونها أفعالا لا أقوالا، تلك هي المعادلة، بأبشع صورها، بلا تأويل أو كثير شرح، وبلغة أخرى: هذا فراق بيني وبينكم، فراق لا لقاء بعده، فقد انكسر التابو الكاذب الذي حاولوا إقامته، وتهشمت صورة العروبة التي رسموها على الأقنعة التي يرتدونها، ولملموا أوراق التوت عن عوراتهم ليستروا بها عورة العدو، فأي غفرانٍ يُرتجى بعد هذه الخديعة وكل هذا الإيغال في القتل؟
(العربي الجديد)