سذاجة التسطيح ونازيّة الاستعمار في قضيّة "تشارلي ايبدو"
كتب تامر خرمه- "الواشنطن بوست" نشرت مؤخرا مادّة تحت عنوان: "نفاق حرية التعبير لدى بعض قادة العالم في مسيرة باريس"، مسلّطة الضوء على مشاركة قادة "اسرائيل" في تلك المسيرة، مدّعين الدفاع عن الحريّات في ذات الوقت الذي يتباهون فيه بقتل العرب.
هل القضيّة حقّاً قضيّة حريّة رأي وتعبير، ومناهضة للإرهاب؟ أيّة رسالة سمجة يودّ بنيامين نتنياهو توجيهها للعالم. زعيم دولة احتلال تمارس القتل والإرهاب اليومي، الذي طال الصحافيين كما طال غيرهم في فلسطين المحتلّة، يدّعي الحرص على حقوق الإنسان، بل ويشارك في تظاهرة لإثبات ذلك!!
إذا كان دم رسّامي الكاريكاتور هو وحده ما يهمّ العالم، سيكون من المفيد مجادلة هذا العالم العبثيّ بمنطقه السطحيّ، وسؤاله أين كان زعماء العالم وقادته عندما قتل الموساد "الاسرائيلي" رسّام الكاريكاتور الفلسطيني ناجي العلي؟
أم هل تُشترط زرقة العينين وبياض البشرة لرفض سفك الدم والتنديد بالقاتل؟!
بالطبع لا يقبل أيّ صاحب ضمير حيّ أن يقتل إنسان بسبب تعبيره عن رأيه، ولكن عودة على ذي بدء، هل يمكن حقّا اختزال القضيّة بوصفها قضيّة رأي؟ حسن.. ماذا بشأن قانون معاداة الساميّة الذي يحرّم على الصحافيّين في الغرب البارد انتقاد "اسرائيل" وممارساتها الإرهابيّة بالدرجة التي تستحقّها؟ وماذا بشأن قانون تجريم إنكار "الهولوكوست" في ألمانيا؟ لماذا تنتصب الخطوط الحمراء أمام كلّ من يحاول التعبير عن رأيه بالصهيونيّة، وتزول هذا الخطوط عندما يتعلّق الأمر بدول العالم الثالث؟
قادة العالم توافدوا من كلّ حدب وصوب للتضامن مع "تشارلي ايبدو"، متجاهلين الحقيقة التي صفعهم بها الكاتب هانز كراوس في مقالة نشرها بمجلّة "ماركس21" الألمانيّة، والتي جاء فيها: "إن هذه الرسومات أدّت إلى تعزيز التحيّز وتنامي الاعتداءات التي يتعرض لها المسلمون كل يوم، خلال مرورهم عبر الطرق الفرنسيّة"، منوها بأن "الحكومة الفرنسيّة استغلّت التحيّز ضدّ المسلمين –والذي تعزّزه تشارلي ايبدو- لتتمكّن من تبرير الحروب التي تقودها في عدد من الدول الإسلامية، فخلال السنوات الأربع الماضية، قام الجيش الفرنسي بقصف ليبيا، وحارب في مالي، وأرسل وحدات قتاليّة إلى جمهوريّة أفريقيا الوسطى، وكذلك تشاد".
ويوضح كراوس: "لقد أشار صحفيّو 'تشارلي ابدو' في كثير من الأحيان إلى أنّهم لا ينتقدون الإسلام وحده، ولكن سخريتهم تطال أيضا المسيحيّة والديانات الأخرى. ولكن هؤلاء الصحافيّين فشلوا في إدراك أن الإسلام في فرنسا يختلف عن الدين المسيحي، فالمسلمين هم أقلية مضطهدة، وقد أساء الصحفيّون نقدهم منذ سنوات لنشر التحامل العنصري ضد السكّان من أفريقيا والشرق الأوسط، وغيرهم من المهاجرين".
هذا التوجيه الإعلامي، الذي يستهدف منذ سنوات المسلمين، والأفارقة، وغيرهم من المهاجرين، أفضى إلى انتشار حركة "وطنيّون أوروبيّون ضد أسلمة الغرب- بيجيديا"، والتي دأبت منذ العام 2000 على تنظيم التظاهرات العنصريّة الرافضة لوجود المهاجرين بشكل عام، والمسلمين بشكل خاص.
القضيّة بصراحة قضيّة تحريض وإعلام أصفر موجّه، أكثر منها قضيّة رأي وتعبير، ففي لقاء بعض الصحافيين بألمانيا الاتّحاديّة، ولدى سؤالهم: "كيف لا يعتبر ما تنشره صحيفة "البيلد" مثلا ضد المسلمين خطاب كراهية، المحظور وفقا للقانون الألماني؟" أجابوا بأن ما تنشره الصحيفة يستند إلى وقائع، لذا بإمكانها نشر أن المسلم فلان الفلاني قام بكذا وكذا، فجاء السؤال التالي: "ماذا لو كان الخبر حول شخص يدين باليهوديّة؟ هل ستنشرون ما مفاده: قام اليهودي الفلاني بكذا؟ الإجابة الغريبة كانت كالتالي: لا، هنا يكون الوضع مختلفاً!!
إذا أردت أن تتحدّث عن حريّة الرأي والتعبير، فلا يمكنك البدء بوضع الاستثناءات، أليس كذلك؟
الكيل بمكيالين أفضى إلى اتّساع دائرة "الاسلاموفوبيا"، وشيطنة المسلمين وتصويرهم على أنّهم مجرّد قتلة، لتبرير الحروب التي يشنّها الغرب في بلادهم، بهدف سرقة ثرواتها. تنامي حركة "بيجيديا" يعكس إلى أيّة درجة وصلت كراهية المهاجرين، نتيجة التحريض الإعلامي الممنهج.
النازيّون في ألمانيا –أعضاء وأنصار الحزب الوطني الديمقراطي- وجدوا في هذا التحريض المستمرّ ما يبرّر تنظيمهم لمسيرة عنصريّة حاولت الانطلاق الأسبوع الماضي من أمام بوابة "البراندنبورغ" في مدينة برلين، لكن لحسن الحظّ المجموعات اليساريّة المناهضة للكراهية تمكّنت من صدّهم.
وفي ألمانيا لا تتجاوز نسبة المسلمين الـ 5%، وفي فرنسا تبلغ نسبتهم 7%، فأيّ مبرّر تتّخذه "بيجيديا" لترويج "الاسلاموفوبيا" عبر إبداء مخاوفها من تبدّد "القيم الأوروبيّة الغربيّة"؟! منطق ساذج تستند إليه حركة "بيجيديا" العنصريّة، كغيرها من النازيّين من أمثال "بديل من أجل ألمانيا"، مردّه خطاب الكراهية، والإمعان في التحريض ضدّ الأقليّات.
المستشارة الألمانيّة أنجيلا ميركل أعربت في الخطاب الذي ألقته عند استلام منصبها رفضها لحركة "بيجيديا"، غير أنّها لم تجرؤ على إدانة عنصريّة الحركة، طبعا لأنّها توفّر للاتّحاد الأوروبي ولحلف "الناتو" المبرّر الكافي لخوض الحروب في العالم العربي والاسلامي.
مجلة "العامل الاشتراكي" نشرت عبر موقعها الالكتروني مقالا تحت عنوان: "مقاومة التجمّعات اليمينيّة العنصريّة في ألمانيا"، أشارت فيه إلى دور حادثة "تشارلي ايبدو" في تعزيز خطاب الكراهية ضدّ المسلمين. ودعت إلى معالجة الدعاية المعادية للمسلمين عبر تنظيم احتجاجات ضخمة تحت شعار: "لا لبييجيديا".
وورد في المقال الذي اشترك في كتابته نورا بيرنيس وماكس مانزي، الناشطان في حزب اليسار الألماني: "في الصيف الماضي، وخلال القصف الاسرائيلي لغزة، ومؤخرا خلال معارك كيوباني في سورية، غصّت الصحافة الألمانيّة بعنصريّة مناهضة الإسلام". كما أشار المقال إلى أن مثل هذا الخطاب إنّما يهدف إلى الترويج لأهداف عسكريّة يسعى الاتّحاد الأوروبي بقيادة ألمانيا إلى تحقيقها.
قد يفسّر هذا سبب قيام قادة وزعماء العالم بالحجّ إلى باريس، بذريعة التضامن مع "تشارلي ايبدو"، غير أن الحقيقة التي تجلّت بإعادة نشر الرسومات التحريضيّة في هذه المجلّة، وكذلك في بعض الصحف الألمانيّة، تتمثّل باستغلال "الاسلاموفوبيا" وترويج خطاب الكراهية، لتبرير أهداف استعماريّة بحتة. ومن السذاجة اختزال القضيّة بمسألة الرأي والتعبير.
وفي النهاية، من الطريف تخيّل حجم الدعاية التي حظيت بها "تشارلي ايبدو"، وكيف استغلّت قتلاها لتحقيق المزيد من المبيعات، والانتقال من كونها مجلّة محليّة هزليّة، إلى صفوف الصحف العالميّة الشهيرة.