jo24_banner
jo24_banner

إسرائيل تفقد القدرة على قياس المخاطر المستقبلية

محمد خضر قرش
جو 24 : القدس - ميزت إسرائيل نفسها منذ قيامها فوق أرض فلسطين،بقدرتها على نقل المعارك إلى خارج حدودها وخوضها لحروب قصيرة الأمد، تسجل فيها انتصارات ملموسة وسريعة تحبط وتجهض به الخصوم وتدب الذعر في صفوفهم مما يؤدي إلى رفع معنويات جمهورها. وبذلك أبقت جبهتها الداخلية محصنة وقوية ومتماسكة وبعيدة عن الارتدادات السلبية لنتائج الحروب والتي بسبب حسن إدارتها وكفاءة التخطيط لها والدعم الأميركي والغربي اللا محدود لها وتقاعس خصومها وتشتتهم، مكنها من الانتصار في الحروب التي خاضتها ضد العرب موحدين أو منفردين. وقد نجحت في تكريس شبه قناعة لدى الشعب العربي بصعوبة وأحيانا استحالة هزيمتها. وجاءت حرب أكتوبر الوطنية عام 1973 لتهز هذه المقولة من جذورها وتحدث تحولا في الشارع العربي وتضع نهاية أو حدا لفكرة الجيش الذي لا يقهر ولا يؤسر ولا يظهر على شاشات التلفاز حافي القدمين أشعث الشعر رث الثياب مطأطأ الرأس أمام الجيوش العربية.وقد أجبرتها خلخلة أو هزة أكتوبر والمشاهد سالفة الذكر لعقد اتفاقية كامب ديفيد مع مصر السادات والانسحاب العسكري من سيناء، بغض النظر عن القيود التي رافقت عملية التوقيع ،وتكرر نفس الشيء تقريبا على الجبهة السورية وتم استرداد القنيطرة التي احتلت عام 1967.وقد شكل ما سبق انعطافا وتغيرا ذا دلالة في الإستراتيجية القتالية العربية ومن ضمنها الفلسطينية. فالمقاومة الفلسطينية تمكنت وبالتحديد بعد حرب أكتوبر المجيدة من توجيه ضربات موجعة ومؤلمة للمفهوم العسكري الإسرائيلي وللإستراتيجية الأمنية ككل. فالمعارك والمواجهات باتت تدور وسط مدنها وعلى طول وعرض جبهتها الداخلية فلم يعد مواطنيها بعيدين عن الاكتواء بنار الحروب كما لم تعد مدنها محصنة أو آمنة بسبب العمليات العسكرية البطولية التي كانت تقوم بها فصائل منظمة التحرير. إلا أن نقطة التحول الإستراتيجية فائقة الأهمية والتي شكلت انعطافا هاما،كانت حينما أطلق الرئيس العراقي السابق صدام حسين نحو 40 صاروخا على المدن الرئيسة دون أن تتمكن من الرد بسبب الضغط الأميركي خشية من إفساد التحالف المشبوه والمقيت والغادر ضد العراق في شهري كانون الثاني وشباط عام 1991 والتي شارك فيه العديد من العرب. وقد وضع هذا القصف حدا لمقولة ضرورة التمسك بالحدود الجغرافية والعوائق الطبيعية كالأنهار والجبال التي ستسهل عملية الدفاع عنها لكونها تشكل مصدات ودفاعات طبيعية ضد هجمات الخصوم.

الانتفاضتان الأولى والثانية
لقد شكلت الانتفاضة المجيدة الأولى في ديسمبر عام 1987 أول اختراقا لمفهوم الدولة القلعة الآمنة التي لا يستطيع أحد اقتحامها والولوج إليها أو تعكير جبهتها الداخلية ، إلا أن تصدع وتفسخ جدران القلعة وفتح ثغرات واسعة وكبيرة فيها بدأ في الانتفاضة الثانية على نطاق واسع بحيث أصبح الوصول إلى كل المدن والمرافق والتجمعات الصناعية الإستراتيجية كوسائل النقل والمصانع وحتى الأمنية والسكنية والتجارية ممكنا ومتاحا بل ومفتوحا. فالمواطن الإسرائيلي في المدن بدأ يشعر ولأول مرة بأنه أصبح يشكل خط الدفاع الأول عن الدولة وليس الجندي المتواجد في قناة السويس ونهر الأردن وهضبة الجولان، وعليه فلم يعد بمأمن عن الموت أو الإصابة أو الأسر. وإذا كان من أبرز نتائج حرب أكتوبر 73 اضطرار إسرائيل الانسحاب من سيناء وفق ترتيبات معينة وانسحاب جزئي لم يكتمل من الجولان فأن نتائج الانتفاضة الأولى المجيدة كانت رضوخ إسرائيل لقيام السلطة الوطنية وعودة الآلاف من المناضلين وإعادة انتشار جيشها وخروجه من المدن الفلسطينية الكبيرة.

ميلاد فجر جديد
جاءت حروب إسرائيل ضد المقاومة في لبنان وفي مقدمتها حزب الله لتثبت للعالم أجمع بأن مفهوم الدولة القلعة القوية ذات الذراع الطويلة القادرة على حسم أية حرب ضد أعدائها أو خصومها لم تعد قائمة فحسب بل وبالإمكان هزيمتها ميدانيا.فانسحابها المخزي والمذل بدون شروط من جنوب لبنان عام 2000 جاء ليؤرخ لميلاد مرحلة جديدة بالصراع وبالأدق لحقبة تتعاكس كليا مع ما كان سائدا ومتداولا منذ قيام إسرائيل.فقد باتت هزيمتها أو منعها من تحقيق الانتصارات قابلة للتطبيق.ونفس ما تحقق في جنوب لبنان تكرر إلى حد معقول في قطاع غزة.حيث انسحبت إسرائيل من القطاع عام 2005 وهدمت المستوطنات وأخلت المستوطنين منها كما فعلت في سيناء قبل ذلك دون توقيع اتفاقية.ويتضح مما سبق انه لم يعد بإمكان المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بكل فروعها وأبرزها "جيش الدفاع الإسرائيلي" تحقيق انتصارات سريعة كتلك التي كانت تتم قبل عام 1973،فقد ولت هذه المرحلة إلى حيث لا رجعة.فصمود المقاومة اللبنانية والفلسطينية وأخذهما لزمام المبادرة في أكثر من مناسبة بما في ذلك اقتحام مواقع عسكرية إسرائيلية أو خطف جنود وهم في دباباتهم وبلباسهم العسكري الميداني وتصويره ونشره على الملأ وإطلاق عشرات الصواريخ على المدن الكبيرة بما فيها تل ابيب،وضع علامات استفهام كبيرة على العقيدة الإستراتيجية القائمة على الردع التي تميزت فيها المؤسسة الأمنية الإسرائيلية.فالمواجهات العسكرية المباشرة مع المقاومة اللبنانية أو الفلسطينية كانت تكشف في كل مرة عن ثغرات وعورات وسلبيات وضعف وتصدع الجبهة الداخلية الإسرائيلية.فوسائل الإعلام المرئية وثقت ونقلت لنا وللعالم أجمع مدى الخوف المتغلغل في نفوس المواطنين الإسرائيليين المدنيين والعسكريين على حد سواء. فقد بات الجميع يشاهد بالصوت والصورة الصياح والذعر الذي يعتمر نفوس المواطنين في الشوارع والمؤسسات بما في ذلك مذيعي محطات التلفاز الذين شوهدوا وهم يتركون مذياعاهم وكاميراتهم ويتوقفوا عن بث تقاريرهم المباشرة ويختبئون خلف أقرب صخرة أو ملجأ مما تسبب في انقطاع البث أكثر من مرة سواء خلال إطلاق صواريخ صدام أو حزب الله أو المقاومة الفلسطينية من قطاع غزة. وخلاصة القول هنا أن إسرائيل لم تعد قادرة على استخدام سياسة الردع العسكرية بما فيها الرد الفوري بدون توقع حدوث ردات فعل مؤثرة وقوية من الخصم والتي من شأنها شل نظام الحياة اليومية والإنتاجية في إسرائيل بما فيها وقف الملاحة الجوية في المطارات المدنية وهذا لم يكن يحدث قبل عام 2000.

قتال الأنداد
لم يكن التآكل والتراجع الكبير والملموس في ما يسمى قوة الردع الإسرائيلية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، تحديدا هي التي تأثرت وضعفت وباتت غير قادرة عن تحقيق نتائج تعيد الاعتبار لهيبتها فحسب،بل أصاب كفاءة وقدرة إسرائيل على "أخذ العبر والدروس" كما كانت تفعل في السابق. فلم تعد معنية أو مهتمة سوى باستخدام القوة تماما كالثور الهائج دون حساب للنتائج المترتبة على عملياتها العسكرية وأهمها التطور الإيجابي في قدرة الخصم على التحمل وجرأته غير المسبوقة في التحدي ومواجهة الجندي الإسرائيلي الذي صُور بالعسكري الذي لا يقهر ولا يؤسر.وبذلك أنهت المقاومة الهالة المصطنعة التي أحيط بها حول شجاعته وقوته الدفاعية والقتالية.لقد أصاب الغرور القيادة السياسية والمؤسسة العسكرية الإسرائيلية مما جعل الأخيرة تستخف بالتطور الهائل والملموس الذي تم في بنية المقاومة اللبنانية والفلسطينية على حد سواء. لقد نظرت إسرائيل إلى قوتها المتعاظمة التي راكمتها خلال العقود الماضية لكنها لم تلتفت إلى ما فعله ويقوم به الخصم لتعزيز قوته. فعلى سبيل المثال، لم يعد بإمكان بوارجه الحربية أن تقصف وتضرب قواعد الخصم وهي في عرض البحر دون أن تتعرض للصواريخ وتصاب وتسحب من المعركة،كما لم يعد بإمكان الدبابات الإسرائيلية اجتياز الحدود دون أن تتلقى ضربات موجعة بما فيها تدميرها وحرقها وتركها في الميدان ونفس الشئ بالنسبة إلى طائرات المروحية. وباختصار شديد لم تعد حروب إسرائيل ضد المقاومة عبارة عن نزهة ذات كلفة بسيطة جدا كما حصل في حزيران عام 1967 أو كما حصل خلال اجتياحها لبنان عام 1982فالأمر تغير كليا.والدليل على ذلك أنها لم تتمكن في العام 2006 من دخول الأراضي اللبنانية سوى لأقل من 5 كيلومترات كحد أقصى دفعت ثمنه غاليا في الأفراد والدبابات والطائرات المروحية بعكس عام 82 حين استطاعت الوصول إلى أطراف بيروت وتطويقها خلال أقل من أسبوعين ومن ثم حصارها لمدة 79 يوما قبل أن تقتحمها بعد خروج المقاومة منها.ويمكن تعميم ما سبق على قطاع غزة في العدوانيين الأخيرين 2008 و 2014 ،فشتان بين الحالات المنوه عنها. ففي كل مرة كانت تتراجع وتتآكل فيه قوة الردع الإسرائيلية بحيث باتت لا تخيف أحدا وفي مقدمتهم أطفال الحجارة.

عملية القنيطرة
لا توجد دولة في العالم شبه عاقلة تسعى وتعمل بدأب على توسيع جبهات قتالها وزيادة درجة العداء لها كما تفعل إسرائيل. ولم تخرج عملية القنيطرة التي راح ضحيتها 6 مقاتلين من حزب الله وجنرال إيراني عن هذا السعي.فإذا كانت إسرائيل تعتقد بأن العملية المشار إليها ستعيد قوة الردع لمؤسستها العسكرية وبداية لأخذ زمام المبادرة فستكون قد أخطأت خطأ كبيرا ولم تتعلم من كل الغارات التي شنتها ولم تستفد أيضا من الدروس والعبر التي استخلصتها.فإدخالها إيران في المواجهة المباشرة يعكس عدم قدرتها على حساب أو قياس المخاطر المستقبلية التي تنتظرها. فالسؤال الذي يجب على إسرائيل الإجابة عليه ليس فيما إذا كانت إيران وحزب الله سيردان أم لا ولكن متى سيقع وما هو الهدف والمكان وقوته؟.الغارة التي شنتها إسرائيل على مجموعة حزب الله وإيران في القنيطرة تعتبر مثالا حيا على فشلها في حساب المخاطر المتوقعة التي ستواجهها في المستقبل.وإذا أردنا أن نحسب الإيجابيات والسلبيات من عملية القنيطرة فينبغي معرفة الأهداف الإستراتيجية التي حققتها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية من هذه الغارة؟؟ فإذا كانت تعتقد بان من شأنها ردع حزب الله وتخويف إيران فالتجربة معهما قالت ألف مليون لا،وإذا كانت تظن بأن من شأنها إعادة الاعتبار لقوة الردع الإسرائيلية المتآكلة فهي مخطئة تماما. وإذا كانت ضمن خطة لبداية مرحلة مواجهة جديدة مع حزب الله وإيران فأنها تعلم قبل غيرها بان من شأن ذلك جر المنطقة إلى آتون حرب تدميرية ستكون هي ومؤسساتها الاقتصادية والعسكرية أكثر المتضررين منها.كل ما حققته الغارة أنها زادت من إصرار حزب الله على الرد الموجع وعمقت الحقد والكراهية المتبادلة وجعلت إيران في المواجهة المباشرة معها.ما فعلته إسرائيل في القنيطرة هي قيامها بسحب مسمار أمان القنبلة وبقي السؤال متى ستقذف لأنه لا يمكن الاستمرار في حمل القنبلة المنزوع منها مسمار أمانها طويلا فإسرائيل لم تعد تتمتع بالكفاءة لقياس المخاطر الجمة التي ستواجهها في المستقبل جراء عمليات كهذه. فهي تفعط بدمائها وتقامر بمستقبلها وعلى القيمين على أمرها أن يدركوا بأنه من المستحيل أن تبقى إسرائيل هي الدولة النووية الوحيدة في الشرق الأوسط ومن سابع المستحيلات أن تبقى الوحيدة ذات الذراع الطويلة. تلك هي أبرز الدروس والعبر التي كان يجب على إسرائيل استيعابها والوقوف أمامها مليا لتجنب مواجهة ستكون هي الخاسر الأكبر فيها.
تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير