jo24_banner
jo24_banner

الصهيونية ودولة إسرائيل: منطق الحركة ينتصر على منطق الدولة!

د. حسن البراري
جو 24 : وكأنني أشاهد فلاديمير جابوتنسكي ينهض من قبره مبتسما مهنئا يهود إسرائيل على تقديم منطق الصهيونية المتشدد على منطق الدولة، فبانزياح الوسط اليهودي إلى اليمين وتحول الأفكار الصهيونية التي كانت تعد متطرفة حتى في إسرائيل إلى مركز السياسية الإسرائيلية يحقق اليمين الصهيوني انتصارا انتخابيا لم يكن حتى جابوتنسكي يحلم به. فحديث نتنياهو العنصري عن عرب إسرائيل يبعث على الاشمئزاز له جذوره التاريخية في الفكر الصهيوني وبخاصة جابوتنسكي صاحب مقولة الحائط الحديدي واتباعه المخلصين من بيغن إلى شامير وأخيرا نتنياهو.

بعيدا عن الدبلوماسية كأن أصدق من عبر عن الفكر الجابوتنسكي هو اسحاق شامير الذي تآمرت عليه إدارة بوش الأب واطاحت به في عام 1992، فما أن خرج من الحكم حتى أعطى تصريحه الشهير ليديعوت احرنوت قائلا: "كنت أنوي جر المفاوضات لمدة عشر سنوات وفيها أغرس أكثر من نصف مليون مستوطن في يهودا والسامرة حتى يستحيل الحل". تنفس الكثير من العرب الصعداء عندما جاء رابين للحكم وشكل حكومة مع ميرتس وشاس واستندت الحكومة إلى شبكة حماية وفرتها الاحزاب العربية، لكن لم يكن في الحسبان أن إسرائيل كانت في خضم تحول مجتمعي احتاج إلى عقد ليكشف عن انيابه ويتجلى الآن بأبشع صوره. والمفارقة ان المراقبين يقارنون بين نتنياهو مثلا وموشيه كحلون أو نفتالي بينت (جاؤوا جميعا من نفس المدرسة الصهيونية التنقيحية)، بمعنى أن الخيار عند الإسرائيليين هو بين متطرفين وليس بين سياسيين ينتمون إلى معسكر يساري وآخر يميني!

فالانتصار الانتخابي المفاجئ والمدوي لحزب الليكود برئاسة بنيامين نتنياهو كشف عن أمرين
كنا نعرفهما جيدا وهما: أن حزب الليكود لم يكن جادا عندما تبنى مقاربة حل الدولتين، فلم يكتف نتنياهو برفع وتيرة الاستيطان كإستراتيجية لقضم أراضي الشعب الفلسطيني والقضاء على فرص حل الدولتين على واقع الأرض وإنما تراجع عن التزامه بحل الدولتين لكسب أصوات اليمين المتطرف في إسرائيل، صحيح أن نتنياهو استفاد من هذا التصريح انتخابيا وربما يعبر عن دعاية انتخابية لكنه يعكس جوهر ما يؤمن به نتنياهو واتباعه، وعلاوة على ذلك كشفت الانتخابات عن عنصرية مقيتة لدى نتنياهو ضد عرب إسرائيل عندما حاول إخافة أنصاره قبيل إغلاق صناديق الانتخابات محذرا من أن العرب يتقاطرون إلى صناديق الانتخابات وكأنهم كائنات فضائية غريبة لا علاقة تربطها بأرضهم، فعنصرية هذا الحزب وزعيمه معروفة لنا كعرب لكن أن يحذر فقط من العرب وعلى أساس إثني وليس سياسيا لهو أمر يبعث على الاشمئزاز ولم تغفل عنه كبريات الصحف العالمية وعلى رأسها صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية التي وجهدت نقدا قاسيا لهذا النمط من العنصرية المكشوفة. وسيشكل الأمران ذخيرة إضافية للقوى المحترمة في العالم التي تعادي الاحتلال والعنصرية وهنا لا أستبعد أن تمارس الولايات المتحدة ضغطا بعد أن كشف نتنياهو عن ازدواجيته بشكل فج.
ربما نتنياهو نفسه تفاجأ من النتيجة، فحتى أشد المتفائلين من أنصاره ما كان ليتوقع أن يكون فوز حزب الليكود بزعامة نتنياهو مدويا إلى هذا الحد، وهو انتصار انتخابي جاء رغم كل التقلبات والانتكاسات التي واجهت حزب الليكود في السنتين الأخيرتين، فكل استطلاعات الرأي العلمية التي أجرتها مؤسسات إسرائيلية مختصة توقعت أن يخسر الليكود الانتخابات وبفارق لصالح الاتحاد الصهيوني بزعامة إسحاق هيرتزوغ وتسيبي ليفني، غير أن هذه الاستطلاعات أيضا سقطت بشكل مربك ما يعني أن القائمين عليها بحاجة إلى إعادة النظر في الطريقة التي تجري فيها استطلاعات الرأي في إسرائيل.

أثبتت النتائج بأن أسطوانة "أي واحد ما عدا بيبي" والتي وردت على لسان الكثيرين من المراقبين والسياسيين الإسرائيليين لم تكن إلا صرخة لفظية بائسة لم تغير من واقع الحال، فالمجتمع الإسرائيلي آخذ في الانزياح نحو اليمين، وعلى نحو لافت انقلب السحر على الساحر وتمكن حزب الليكود ونتنياهو من تحقيق فوز كبير. وفي ظل هذا النجاح الانتخابي الكبير غير المتوقع فإن نتنياهو سيشكل حكومة للمرة الرابعة في تاريخه السياسي والثالثة على التوالي (وهو إنجاز لم يسبقه إليه إلا ابن غوريون) والتي لن تكن بطبيعة الحال مهمة سهلة وستحتاج إلى مفاوضات ماراثونية مع شركاء محتملين.

اللافت أن إصرار نتنياهو على خطاب الكراهية وتبجحه في التنصل من حل الدولتين جلبا له الكثير من الناخبين، ويمكن القول بأنه تمكن من كسب المزيد من أصوات اليمين وبخاصة أصوات حزب البيت اليهودي بزعامة نفتالي بينيت الذي استفاق على واقع مرير إذ تسلل ناخبوه من بين أصابعه لصالح خطاب الكراهية وكأننا أمام مشهد من الرمال المتحركة. وهناك من بين المراقبين الإسرائيليين مثل يوسي فيرتر من صحيفة هآرتس الإسرائيلية يرى أن موشيه كحلون (سياسي من أصل ليبي انشق عن الليكود وأسس حزب كولانو) سيلعب الدور الذي كان يقوم به نفتالي بينيت وقد يمتلك مفتاح ائتلاف الحكومة المقبل وربما سيجعل حياة نتنياهو جحيما لأنه يحمل حقدا شخصيا ضد نتنياهو، لكن نتنياهو يستطيع أن يتجاوزه أن قرر إقامة حكومة وحدة وطنية مع الاتحاد الصهيوني أو احتوائه بتعيينه وزيرا للمالية وهذا ما يطمح إليه كحلون حتى يتسنى له تنفيذ جزء من برنامجه الانتخابي.

والراهن أن نتنياهو يميل إلى تجنب خيار حكومة الوحدة الوطنية وهذا ما قاله بصراحة لأنه يريد إقامة حكومة وطنية مع شركائه الطبيعيين من الحريديم وليس حكومة وحدة وطنية.

الخطورة بالأمر لنا كعرب ليس في تحول شخص بمواصفات نتنياهو إلى خيار للشعب الإسرائيلي، بل في الاعتقاد بانه يمكن صنع السلام معه! لن أقول أن انتخابه كان بمثابة استفتاء على موقف الإسرائيليين من التسوية السلمية، إلا أنني أرى أن تخليه عن الالتزام بحل الدولتين وهو الالتزام الذي قطعه على نفسه في خطاب كان قد ألقاه بجامعة بار ايلان عام 2009 ينبغي أن يشكل نقطة تحول في إستراتيجية الدول العربية التي وضعت من حل الدولتين هدفا لسياساتها الخارجية، وعلى العكس مما يقوله نتنياهو حول غياب الشريك الفلسطيني أرى أنه لا شريك إسرائيلي يمكن التحدث إليه، فعنوان المرحلة القادمة هو بناء المزيد من الاستيطان وقضم أكبر نسبة أراض ممكنة حتى تستكمل الصهيونية التنقيحية الجابوتنسيكية آخر حلقاتها!.

نتائج الانتخابات ستخلق مزاجا عربيا مختلفا، أو هكذا يفترض أن يكون، فكل المراهنات على أن سقوط نتنياهو كان حتميا نظرا لتدهور علاقته الشخصية مع إدارة أوباما والأزمة الداخلية التي عاشتها حكومة نتنياهو قبيل الانتخابات وتكتل خصومه ضده هي مراهنات بائسة، فإسرائيل بهذا المعنى وضعت حدا لآمال فريق المفاوضات الفلسطيني ومن ساندهم العرب، فإسرائيل اليمينية لن تتحرك قيد أنمله، ولو ما زال شامير على قيد الحياة، لقال لهم: "برافو، استمروا في خط الليكود التاريخي بعدم التنازل عن أي إنش من الأرض". لكن انتصار منطق الصهيونية كأيديولوجيا على منطق الدولة سيفضي إلى أزمه إسرائيلية تتعلق بطبيعة الدولة وهذا بدوره سيفرض على إسرائيل التفكير في سيناريوهات خطرة على دول الجوار، فهل نستفيق؟!
تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير