على هامش المظاهرات في الضفة الغربية
عمت الضفة الغربية تحديدا احتجاجات ومظاهرات عنيفة تطالب باستقالة الدكتور سلام فياض رئيس الوزراء وتحميله مسئولية الارتفاع المتواصل في موجة الغلاء وفي مقدمتها أسعار الوقود التي اثقلت كاهل الأسر الفلسطينية وخاصة لذوي الدخل المحدود التي تشكل الغالبية العظمى من السكان. ومن المفيد قبل الخوض في التفاصيل أن نشير إلى مجموعة مسلمات او بديهيات،لا اعتقد ان هناك خلافات حولها.
1- أن ارتفاع اسعار السلع والخدمات بات خارج قوة الاحتمال والقدرة الشرائية للأسر والعائلات والأفراد . فلم يعد الدخل الشهري قادرا على تلبية الاحتياجات الاساسية للأسرة فما بالك بمتطلبات الحياة الأخرى وتجزئة دفع الرواتب والتي باتت ظاهرة متكررة ومقلقة ولا تمكن الأسر من ترتيب وتنظيم مصروفاتها وفقا للدخل المتأتي نهاية كل شهر.
2- أن حق التظاهر والاحتجاج السلمي مكفول بالقانون وهو حق من حقوق المواطن من الضروري الحفاظ عليه وممارسته ميدانيا ولكن دون تخريب المنشآت ومرافق الخدمات العامة والخاصة وإلقاء الحجارة وإحراق الدواليب وقطع الطرقات التي يقوم بها صبية لا تتجاوز أعمارهم 15 سنة .فهذه الاعمال تضيف اعباء وتستنزف موارد مالية ، شعبنا اولى بها وأحق.
3- ان ارتفاع الاسعار سببه الرئيسي الاحتلال فهو الذي يمسك بزمام الامور الاقتصادية سواء من خلال عملته المتداولة في السوق الفلسطيني أو عبرة تحكمه بحركة التجارة الخارجية الفلسطينية (الصادرات والواردات) أو من خلال الاف السلع والخدمات التي يصدرها للجانب الفلسطيني يوميا،فالتضخم بمعظمه يأتي من إسرائيل تحديدا .
4- أن ما حصل من انقلاب على الشرعية في غزة لم يكن لرئيس الحكومة سلام فياض فيه أي مسئولية او دور وهذا أدى عمليا إلى تحويل القطاع إلى مركز نفقة فقط حيث يستنزف نحو 45% من الموازنة مقابل نسبة لا تتجاوز 4% من ايرادات السلطة.وهذه إحدى أسباب العجز المالي الذي تعاني منه ميزانية السلطة في الضفة الغربية، حيث ما زالت حكومة فياض تدفع رواتب الموظفين هناك دون أن يلتزموا بتعليماتها .
بعد هذه المسلمات المتفق عليها سنلج إلى صلب الموضوع محل البحث.وحتى تكون مناقشتنا هادئة ومفيدة لا بد من الابتعاد عن شخصنة الأمور وتحميل شخص بعينه المسئولية متجاهلين عن عمد بأننا نعيش في ظل احتلال كامل لا تزيد سيطرتنا النظرية على 20% من الأرض دون ان يكون لنا القدرة على التحكم بالموارد المختزنة داخلها بما فيها مياهنا التي نشتريها من الاحتلال ونفس الشيء بالنسبة إلى الوقود والكهرباء والغاز وضرائب القيمة المضافة بهامش تحرك لا يزيد عن 2% بالزيادة أو النقصان . ليس هذا فحسب بل ان الاحتلال يتحكم بحركتنا الداخلية والخارجية ويفرض حصارا على هذه المدينة أو تلك متى يشاء ويرغب دون أدنى اعتبار للاتفاقيات الموقعة معه. فهو يستطيع اقتحام اي مصرف أو جمعية أو محل صرافة أو مجمع تجاري بما فيها داخل مدينة رام الله ونابلس وقد فعلها قبل ذلك مرارا خارقا وغير عابئ باتفاقيات أوسلو وباريس الاقتصادية أو مبدي خشية من أية ردود فعل دولية.والكل يعلم أيضا ان الذي يحكمنا نظريا مع الاحتلال اتفاقيتان هما أوسلو الاولى والثانية وتوابعهما وملاحقهما واتفاقية باريس الاقتصادية. والكل يعلم أيضا أن الدكتور سلام فياض لم يكن طرفا فيهما وليس مسئولا عنهما ولم يستشر بهما او يؤخذ رأيه فيهما . ليس هذا فحسب بل دعونا ننتقل خطوة أخرى إلى الامام بغرض تبيان حقيقة ارتفاع الاسعار.فسعر الوقود(البنزين والسولار والغاز) تحدده دولة الاحتلال المحتكرة الوحيدة للتوريد وتنطبق نفس الأسس على الكهرباء والمياه.فشركة كهرباء القدس المفترى عليها ليست اكثر من وسيط حيث تقوم بشراء الكهرباء من الشركة القطرية الإسرائيلية وتضع هامشا متواضعا وتعيد بيعه إلى المواطن الفلسطيني ، ولم تعد تحتمل استمرار سرقة الطاقة من قبل المواطنين وخاصة عدم قيام المخيمات بدفع فواتير الاستهلاك الشهرية مما راكم الديون عليها والتي تجاوزت نحو 240 مليون شيكل.والسؤال الذي لا بد من الاجابة عليه في هذا السياق هو من الذي أجاز وسمح وبأي حق طلب أو امر باستثناء المخيمات من دفع فواتير استهلاك الكهرباء ؟؟؟ وهذا تم قبل تكليف فياض بتشكيل الحكومة، علما بأن هناك ورش ومصانع صغيرة موجودة في المخيمات وجوارها لا تدفع الفواتير بل ليس لديها ساعات تبين الاستهلاك الشهري فهل هذا عدل وحق ومساواة !!!.فالاحتلال يرفض السماح لشركة كهرباء القدس بتوليد الطاقة عبر شراء مولدات لأنه يريد ان يبقى المتحكم فيها.كما لا تستطيع شركة مصلحة المياه أو أي بلدية أو مؤسسة بحفر آبار ارتوازية لاستخراج الماء من باطن الارض الفلسطينية إلا بعد سلسلة طويلة ومعقدة من الإجراءات . لقد قام الاحتلال مرارا بهدم الابار التي يحفرها القرويون لسقي أغنامهم ومزروعاتهم بحجة عدم الحصول على التراخيص .وتحت حجة الغلاف الجمركي الموحد يتم رفض استيراد سلع ومنتجات كثيرة بذريعة مخالفتها للشروط والمواصفات الإسرائيلية وهذا من شأنه حرمان المواطن الفلسطيني من شراء السلع الرخيصة الثمن.ليس هذا فحسب بل ان سلطات الاحتلال تمنع شركة جوال من تركيب ونصب محطات وشبكات تقوية للبث والإرسال في العديد من المناطق وليس فقط في المنطقة ج ،مما يزيد في كلفة المكالمات الأرضية والمتحركة (الجوال).فعلى سبيل المثال حينما يتصل مواطن في قريته الموجودة في المنطقة ج أو حتى بعض مناطق ب يتم تمرير المكالمة عبر الخطوط والشبكة الإسرائيلية مما يزيد من تكلفة الفاتورة حيث تقوم شركة الاتصالات بتسديد رسوم للشركات الإسرائيلية جراء استخدام خطوطها في تمرير المكالمات .هذه الحقائق وغيرها كثير غير معروفة على نطاق جماهيري (شعبي) واسع حيث تعتقد قطاعات واسعة بأن سبب ارتفاع الاسعار يعود للسياسة الاقتصادية التي تتبعها الحكومة .
الاحتجاجات سياسية بالأساس
اتضح تماما بان دور ومسئولية الحكومة الحالية وأية حكومة قادمة في الحد من ارتفاع الاسعار محدودا جدا لا يتعدى 15% في اسعار الوقود و 2% بضريبة القيمة المضافة وإمكانية تخفيض أو رفع ضريبة الدخل المباشرة ,فالقطاع الخاص هو الذي يستورد أو ينتج السلع والخدمات ضمن القيود سالفة الذكر ،فليس للحكومة مصانع او شركات منتجة للسلع والخدمات لتقوم بطرحها بالأسواق بأسعار رخيصة .فالاحتجاجات والتظاهرات وتحميل الدكتور سلام فياض المسئولية المباشرة عن تردي الاوضاع الاقتصادية أو ارتفاع الاسعار فيه الكثير من التجني وعدم قول الحقيقة والظلم للرجل. فالشارع الفلسطيني يعلم تماما ما وراء هذه الحملة الظالمة على شخصية رئيس الوزراء علما بأنه قام أكثر من مرة بتقديم استقالته علنا .ومن المفيد هنا أن اوضح نقطة في غاية الأهمية وهي ان الاوضاع الاقتصادية في الضفة الغربية لن تتأثر بأي حكومة جديدة يمكن تشكيلها بدون سلام فياض. فلو افترضنا أننا أخرجنا جون مايرد كينز من قبره في بريطانيا وسلمناه رئاسة الحكومة وأحضرنا معه ميلتون فريدمان الاقتصادي الأميركي اليهودي الذي أعاد الاعتبار لنظرية كمية النقود مع اضافة عوامل مؤثرة أخرى ، وسلمناه الملف المالي والاقتصادي في السلطة فإنهما لا يستطيعان ان يفعلا بالأسعار والغلاء أكثر مما يفعل فياض وقسيس والناجي .وكما يقول المثل الشعبي : "اللي في هالطنجرة بتطلعوا المغرفة" فكينز وفريدمان سيجدا امامهما احتلالا وحصارا واختلالا كبيرا في الموارد المالية المتاحة واقتصادا تابعا و محاصرا من كل الجهات وحركة تجارية مربوطة بالاحتلال ومصالحه ولا يُسمح لهما باستخدام الموارد المختزنة في جوف الأرض وغير مسموح لهما الاستثمار في المناطق ج أو حتى في حالات كثيرة الدخول إليها وحركة الدخول والخروج مقيدة ومرتبطة برغبات ومزاج الاحتلال ...الخ فماذا سيفعلان وكيف سيديران عجلة الاقتصاد؟؟؟. المؤسف حقا ان هناك بعض الشخصيات الاقتصادية والسياسية المرموقة والمعروفة ورغم إدراكها للحقيقة المؤلمة لواقع الاقتصاد الفلسطيني وإنها غير مرتبطة بشخص معين ، وإنما بظروف وأوضاع اقليمية ودولية يتحمل الطرف الفلسطيني جانبا مهما من المسئولية لتوقيعه على الاتفاقيات والتي تتضمن عمليا ابتلاع ومصادرة الحق الفلسطيني لصالح الاحتلال ،إلا انها ولأسباب في نفس يعقوب تحمل رئيس الحكومة المسئولية عن الوضع الاقتصادي للسلطة الوطنية في الضفة الغربية.
امكانية تخفيض العجز المستمر
هناك امكانية متاحة ومتوفرة لتخفيض العجز وحل مشكلة انتظام دفع الرواتب منها على سبيل المثال وقف رواتب موظفي قطاع غزة أو إنهاء (فصل) نحو 40 ألف موظف في الضفة ،وبالمناسبة ستزداد الانتاجية لكن السؤال هو من سيتخذ هذا القرار الفدائي ويتحمل مسئوليته الاجتماعية والسياسية والنتائج المترتبة عليه ؟ كما انه من الممكن تخفيض العجز بنسبة تتراوح ما بين 5-10% من بند المهمات والتبذير وقرارات الصرف الشخصية لكنها لا تحل المشكلة وإنما تقلل منها بالنسبة المشار إليها على أبعد تقدير. وهناك امكانية أخرى للحل عبر الاستجابة للضغوط العربية والدولية المختلفة وهذه لها ثمنها الاستراتيجي الذي لا يستطيع أحد في السلطة الوطنية تحمل تبعاته. لا يوجد حلول جذرية للأزمة المالية التي تعاني منها السلطة بغض النظر عن شخصية من يتولى رئاسة السلطة أوالحكومة. فالتهم التي اطلقت على الرئيس الراحل ياسر عرفات بأنه عقبة امام السلام تقال اليوم ضد الرئيس عباس .ازمتنا عويصة لا يمكن حلها إلا بزوال الاحتلال وغير ذلك ترقيع ومسكنات بما فيها تعديل اتفاقية باريس الاقتصادية ، كما أن هناك امكانية للحل عبر تخصيص نصف مليار $ سنويا على إقامة المشاريع الاستثمارية لمدة 5 سنوات متتالية. الأزمة تكمن في الاحتلال الذي يسيطر على الماء والهواء والحركة والمال والأرض والسماء.