jo24_banner
jo24_banner

ما ينجمش....

د. صبري اربيحات
جو 24 : قبل أكثر من عقدين من الزمن كنت في زيارة الى الجمهورية التونسية...وأدهشني إلى جانب الطبيعة وجمالها اللهجة التونسية والعديد من المفردات التي ظلت في ذهني، أعاود استخدامها كلما التقيت بالأخوة التوانسة في مؤتمر أو مناسبة هنا أو هناك.
التوانسة يستخدون مصطلح "برشة" كصفة تفيد الكثرة أو ما يعادل "الوايد" عند إخواننا في الإمارات العربية ويستخدمون مصطلح "التربصات" لتعني التدريبات ...و"الإطارات" لتعني المدراء. وفي تونس يقولون عن العميد الجامعي "القيدوم" وعن السابق "الفارط" وعند جمع المفردات في جمل يصبح إيقاعها جميلا وله مدلولات بليغة تتفوق في رأيي على المفردات التي نستخدمها.
فيمكن أن تقول عن المدير الذي أحيل على التقاعد "الإطار الفارط" وعميد الكلية الذي جرى تبديله "بالقيدوم الفارط"، وإذا ما أعجبك شخص أو شيء فلك أن تضيف إلى عبارات الثناء والإعجاب كلمة "برشا".
عندما أكون في تونس أبدي اهتماما زائدا في ما يقوله التونسيون، واستدرج الأصدقاء للحديث لأطول فترة ممكنة لكي استمتع باستكشاف مزيد من المفردات التي تحمل جرسا وإيقاعا يوحي بدلالاتها. فمجرد الاستماع لحديثهم تكتشف معاني لألفاظ جرى نحتها في سياق تاريخي وثقافي منحها المعنى والدلالة يسهم التعرف عليه في توفير متعة تفوق الكثير من الفعاليات والانشطة الأخرى وتضيء جوانب من اللغة العربية وغناها.
التونسيون أقل مجاملة منا وأميل إلى المكاشفة، ولا يتردد التونسي في وصف من يقدم على تنفيذ مهمة تفوق إمكاناته بالقول" ما تنجمش".. أي أنك لن تستطيع القيام بما تستعد للقيام به. في ثقافتنا المحلية كان أهالينا وفي معرض تعبيرهم عن الفشل والخيبات يقولون "شو بعرّفنا هو إحنا بننجم" تعبيرا عن أن فشلهم يعود لسبب أنهم لم يكونوا يعرفون طبيعة المهمة التي قاموا بها...والمقولة تشكل اعترافا ضمنيا بأن معرفة المستقبل تقتصر على المنجمين.
في الحضارات القديمة كانت دراسة النجوم ومساراتها ومواعيدها ومنازلها أول العلوم التي اهتدى الناس بنتائجها. قبل ظهور الديانات السماوية كان المنجمون والفلكيون يتمتعون بمكانة رفيعة يستمدونها من استعدادهم لتقديم إجابات عن الأسئلة التي قد يطرحها الناس عن الكون والوجود والأحداث التي يتعرضون لها.
لقد ساعد التنجيم وعلم الفلك على اهتداء الإنسان للجهات الأربع والتنبؤ بالفصول وتطوير أنظمة التقويم وتفسير حدوث الكوارث والظواهر الكونية والأحداث التي تتعرض لها الأمم والجماعات والأفراد. وبالرغم من انفصال الفلك عن التنجيم بفضل الثورة المعرفية وما توصل له العلم من معرفة دقيقة بالمجرّات وقياس لمدارات الكواكب وحركتها إلا أن تعلق الإنسان بالغيبيات واستمرار محاولات قراءة ما يحدث على الأرض وللناس من خلال الأبراج والنجوم ومنازل الكواكب ما يزال يشغل الناس ويدفعهم للبحث عن المنجمين الذين تفوق البعض منهم في شهرته على أشهر الساسة والأطباء والمنظرين.
الماضي مألوف وجميل والمستقبل غامض ومثير نسعى بصورة دائمة للتنبؤ بما يحمله. والمنجمون يتصدون لرغبتنا العميقة في أن نعرف ما تخبئه الأيام. الكثير منا يصدقون ما يقال ويتفاءلون بقراءات الطالع طالما أنها لا تحمل توقعات مخيبة للآمال.
قراءة الطقس والتنبؤ بأوضاعه علم تطبيقي خرج من دائرة التنجيم منذ زمن بعيد. استمرار التعامل معه وقراءاته على أنه ضرب من ضروب التنجيم يوحي بتجاهل طبيعة العلم ومدى حاجة الناس إلى معلومات دقيقة ساعة بساعة تكشف عن التباين بين منطقة وأخرى بعيدا عن العموميات التي لا تقول شيئا مفيدا.
الاعتقاد بأن حصر مهمة الرصد والتنبؤ بالدائرة الرسمية للأرصاد الجوية لا يلغي حاجة الناس للبحث عن مصادر أخرى خارج الأطر التي تضعها الحكومة، فالمواطن اليوم لم يعد يكتفي بنشرة تقول له إن الطقس سيكون غائما إلى غائم جزئي وإن الفرصة قد تتهيأ لسقوط زخات محلية في مناطق متفرقة...والله وحده أعلم.
تابعو الأردن 24 على google news