" الجريمة والعقاب "
تمخضت النتائج التي أفرزها الربيع العربي عن ردود فعل عنيفة لبعض الحكومات العربية ضد الصحافة والاعلام والمواقع الالكترونية، مما جعلها تندم وتتراجع عن مستوى الحريات التي منحتها لهذه المؤسسات، وكأن الفترة الماضية التي أخذ فيها الإعلام دوره بمثابة" جريمة" ارتكبت بحق الوطن، وقد حان الآن وقت العقاب على كل الأفعال التي ارتكبت بحق الشعب بعد أن حسب البعض أن الحكومات أصابها الوهن والضعف، ويمكن أن تتهاوى بسرعة؛ بفعل "التحريض الإعلامي".
فلم تنظر الحكومات العربية إلى الحريات الإعلامية - التي لا تؤمن بها في الأصل- إلا بنوع من الانفلات الذي مارسته وسائل الأعلام التي كانت تحرض على المظاهرات والمسيرات، وتوجه الشباب للذهاب إلى الشارع للمشاركة في الانشطة والحراكات المختلفة التي تدعو إلى التغيير ومحاسبة من ارتكبوا انتهاكات ضد الشعب ،وحسبت نفسها تدافع عن الفساد المفسدين، فيما هي "تثير الفتن " من وجهة نظر الحكومة ، وتسهم في زيادة التباعد بين أبناء المجتمع الواحد،وتغتال الشخصيات المهمة....
إنها بحق جريمة لا تغتفر!! فقد توسعت في الحريات وأصبحت تشتم وتسب وتتناول الأعراض والشؤون الخاصة للمسؤولين، وجعلت البعض يطالب فئات في المجتمع وبالذات المهمشة بحقوق لا تستحقها، حيت وصلنا إلى فترة اعتقدت الحكومات أن الحريات الاعلامية سبب ويلاتنا ومصائبنا،وأحدثت أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية ،لذلك كان العقاب الأنجع بالنسبة لها كسلطة، تكميم هذه الأفواه واسكاتها، لأن عليها أن لا تتمادي في مطالبها .
لقد اعتقدت الحكومات أنه لا يجوز بأي حال من الأحوال لوسائل الإعلام ومنها الفضائيات والمواقع الالكترونية،أن تقترب من الشارع،وما عليها إلا أن تظل مقيدة في حركتها،ولا يجوز لها أن تخرج عن السيطرة، التي ظلت عبر سنوات مضت تحت مظلتها ، وكان عليها أن لا تنسجم مع متطلبات الشارع العربي، وتكشف قضايا الفساد،وتعيش وهم الانتصارات العربية وترسم صفحات سوداء في تاريخنا المعاصر، ولا تتطاول على القادة وغيرهم ممن هم مخلصون لشعبهم.
لقد أدركت الحكومات العربية الآن أن الإعلام هو "المذنب الحقيقي" في كل ما حصل في العالم العربي وسبب الخراب، لذلك لا بد من تقييده وتحجيمه ومعاودة السيطرة عليه ،كي لا يفلت مجددا ويحسب نفسه ألسلطة الأولى في البلد،وعليه أن يبتعد عن هذه الوهم الذي حصل، لذلك بدأت تظهر أزمة جديدة في عالم الصحافة والإعلام تعم معظم الدول العربية وبالذات الدول التي شهدت فيها حالات تغيير سواء على مستوى القادة أو تغييرات أقل قليلا على مستوى القوانين والانظمة والتشريعات والاصلاحات في بعض الجوانب ،فالصورة تكاد تكون واضحة ومتشابهة في العالم العربي،من حركة الاحتجاجات المضادة للاجراءات الحكومية المقيدة للحريات الصحفية .
ولكن لسان حال الإعلاميين أنهم لن يستسلموا للعقاب، لأن "جريمتهم "، دافعها الحب لوطنهم وللمهنة التي عشقوها وكافحوا من أجلها،لإعلاء مبادئها السامية،ولن يرضخوا لكل الانظمة والاجراءات المقيدة التي تمارسها الحكومات ضد الحريات ،فالاعلاميون في تونس يقفون ويقف معهم كل مؤيدي الحريات في العالم ضد القرارات المقيدة للحريات وضد أي تدخلات في الصحافة،وفرض أي هيمنة على الصحفي،وضد تعيينها رؤساء تحرير صحف لا يعرفون ما يجري داخل "المطبخ الصحفي" الوقوف بوجه مدراء فضائيات يهبطون بالمظلات إلى الاستوديوهات،وهي تدخلات لا تجوز في الإعلام.
ويحتج الصحفيون في مصر على مبدأ الوصاية على الصحافة، والإقالات القمعية والتعيينات التي تفرض في المؤسسات الإعلامية واحالة صحفيين الى المحاكم وسجن بعضهم ،وما يحدث أيضا في السودان وموريتانيا وغيرها من الدول .
وأتوقف أيضا عند الحالة الأردنية التي تعتبر تحول جديد بعد الانتشار الواسع للمواقع الالكترونية، التي أصبحت من أكثر الوسائل الاعلامية جذبا للقراء،نظرا لانفتاحها على الناس ونشر مشاكلهم ومساهماتها في الكشف عن الكثير من بواطن الفساد،وكذلك انسجام بعضها وتوافقه مع حركة الشارع الاردني المطالب بالاصلاحات ومحاكمة الفساد والمفسدين بعد ان تزايد الفساد في الاردن بطريقة غير معهودة من قبل،وتزايدت بنفس الوقت المسيرات والاعتصادمات التي توافقت مع الربيع العربي والمطالبة أيضا بتغييرات اصلاحية في معظم مجالات الحياة في الاردن .
لم تجد الحكومة الاردنية سوى الاعلام أو المواقع الالكترونية لتحاكمها على "الانفلات"،الذي حدث خلال السنوات القليلة الماضية، فما كان منها إلا أن تفرض قيودا عليها ،عندما أجرت تعديلات على قانون المطبوعات والنشر،ألزمت فيها المواقع الالكترونية بالتسجيل والترخيص كأي مطبوعة صحفية وفقا لاحكام القانون،وتحت حجج وذرائع بتنظيم ممارستها لعملها.
وقد أقرت التعديلات بسرعة هائلة وخلال أيام قليلة مرت من يد الحكومة إلى مجلسي النواب والأعيان، ونشرت في الجريدة الرسمية،في وقت أجلت أو تغاضت عن العديد من القوانين التي تمس حياة الناس، لكن أصحاب المواقع ومعهم الصحفيين والاعلاميين لم يرضخوا لهذه "العقوبات " التي اعتبروا أن الحكومة أرادت أن تفرض الرقابة على المواقع الالكترونية في سابقة خطيرة، وفي وقت لا يمكن بأي حال تقييد حرية المعلومة في هذا الزمن، حيث تنساب بكل سهولة عبر مختلف المواقع والوسائل الأعلامية،فكيف يمكن تقييدها وهي ما زالت اكثر ارتباطا الناس وتوجهاتهم وتطلعاتهم؟.
إن ما تريده الحكومات أن تبقى الصحافة تحت سيطرتها ولا تسمح لها مجددا من الانطلاق والاستقلالية متناسية أن حرية الاعلام اساس التقدم لأي دولة في هذا العصر،وهذا الأمر لا يعني معظم دول العالم الثالث،التي لا يهمها أي تطور إعلامي وليس في تفكيرها أن تواكب التطورات الاعلامية في العالم ،لذلك فهي تقول لكل الاعلاميين الذين تجاوزا حدودهم "الآن حان وقت الحساب" ،ويكفيكم ما قدمتم للتعبير عن الكبت الذي تعتقدون أن الاجهزة مارسته بحقكم ، فالجريمة التي ارتكبتموها تستحق العقاب.