من هو الجاسوس الاسرائيلي الذي ترأس تحرير صحيفة كبرى وأسهم ابنه في صناعة أوسلو؟
حازم الخالدي
جو 24 :
بعد وفاة الصحفي الدانماركي هربرت بونديك، واسمه بالعبري (ناحوم بونداك) الشهر الماضي، بدأت الصحافة تتحدث عن هذا العميل الصهيوني الذي اعترف انه كان يعمل جاسوسا لاسرائيل ومارس عمليات تطهير عرقي أثناء التحاقه بعصابات الهاجانا في العام 1948، ليصل الى منصب رئيس تحرير أكبر صحيفة في الدانمارك، ويمارس سلطته كسفير إعلامي لها بالدانمارك وفي اوروبا، وتقديمها بمظهر الدولة التي تدافع عن الديمقراطية والحريات في المنطقة.
تكشف الوثائق، التي خرجت علينا عبر الصحافة العبرية والعالمية، الدور الذي مارسه الجاسوس الاسرائيلي سواء أثناء تطوعه مع عصابات الهاجانا أو عمله في الصحافة الدانماركية، حيث تبين هذه الأوراق مدى الزيف الذي كانت تمارسه الدعاية الصهيونية وتضليلها للرأي العام، وهي وثائق يمكن أن تكون لنا دليل إدانة للممارسات الاسرائيلية، وبنفس الوقت في الدفاع عن قضايانا، وإظهار مدى الزيف والتزوير الذي يحمله الفكر الصهيوني الى العالم .
عندما يتعلق الأمر باسرائيل، لا يوجد شخصية معروفة في الصحافة الدنماركية أكثر من هربرت بونديك، رئيس تحرير صحيفة(Politiken )، وهي أكبر صحيفة في الدنمارك، خاصة وأن بونديك أمضى مدة 24 عامًا رئيسا للتحرير وكاتبا لمقال على صفحاتها.
ولد بونديك من والدين يهوديين في كوبنهاغن في عام 1927، وأثناء الاحتلال الألماني للدنمارك ، فر في عام 1943 مع عائلته إلى السويد، ليعود إلى الدنمارك بعد انتهاء الحرب، ثم ينضم الى العصابات الصهيونية في لواء ألكساندرين، ليصل إلى فلسطين في 6 مايو 1948 .
أثناء عمله في صحيفة المعلومات في فترة الستينيات من القرن الماضي لم يلحظ أحد عليه أنه كان جاسوسًا للموساد ، ولم ينطق بكلمة واحدة عن دوره في عملية القتل الجماعي للفلسطينيين، وبالتحديد في مذبحة الطنطورة عام 1948، وهي المذبحة التي قتل فيها 250 فلسطينيا من الرجال في ليلة واحدة، حيث أطلقت عليهم النيران في الشوارع، وتم تجميع البعض منهم في مجموعات من ستة إلى عشرة أشخاص في مقابر جماعية، وقد أصبحت المقابرالجماعية اليوم مواقف سيارات.
وعندما اقتحمت المجموعات الصهيونية القرية عملت على طرد النساء والأطفال، لترويع السكان والقرى المجاورة، حيث مهدت المذبحة لعمليات تهجير في القرى المجاورة .
بعد سنوات وفي العام 2010 اعترف بونديك بجاسوسيته في مقابلة صحفية نشرت في مجلة " المعلومات " التي عمل بها، وكان العنوان "نعم ، كنت عميلاً للموساد"، وتحدث في المقابلة عن دوره في مذبحة الطنطورة.
وعندما تسلم رئاسة تحرير صحيفة "Politiken في العام 1970 قال بونديك "طالما كنت رئيسا للتحرير ، فإن صحيفتنا ستتعامل مع بقاء إسرائيل ومصيرها، ليثبت تحيزه إلى اسرائيل، حتى أنه أصبح يتفاخر بذلك بعد أن أبلغ الحزب السياسي الوسطي ( Radikale )، في الدانمارك، الذي كان له تأثير قوي على الصحيفة، بأننا أحرار في عملنا، ولكن لن يتم تطبيق هذه الحرية على إسرائيل.
وبطريقة أو بأخرى ، فإن هذا الاعتراف والتأييد المعلن لإسرائيل لن يُعتبر على الإطلاق حلا وسطا بالنسبة لبونديك، بل سيكون أمرًا طبيعيًا في عمله.
كان بونديك يتنقل بين إسرائيل ، والدانمارك، بحيث يقيم في منزل بتل ابيت وفي فندق في كوبنهاغن .
بالنسبة لدوره في مذبحة الطنطورة، فقد كان يخدم في الجيش الصهيوني بالهاغانا، يقول" أتيت من هيليروب وهي الضاحية الشمالية لكوبنهاجن الى أرض الميعاد وكنت صبيا صغيرا، لم أكن أتحدث اللغة العبرية، ولم أكن أعرف شيئا سوى أن ديفيد بن غوريون هو القائد، حصلت على بعض الأموال، فكنت أتجول مثل أي جندي أجنبي ، كان مكاني في قرية الطنطورة، وأعرف أن أكثر من 1000 فلسطيني من البلدة لا يعرفون العبرية أيضًا ، لكني لست بحاجة إلى ذلك، فما نقوم به عمليات قتل دون مبرر من خلال اصطفاف مجموعات كبيرة من الناس ضد الجدار وإطلاق النار عليهم في الرأس ، وأذكر فقد حصلت مقبرة جماعية لحوالي 250 جثة ".
ويعترف بونديك بما قام به مع عصابات الهاجانا بالتطهير العرقي في فلسطين بقوله: "أعرف ، أنه لو لم يحدث التطهير العرقي إلى جانب فرار طوعي تحت التهديد والقتل لما كانت هناك دولة يهودية، كذلك فإنه لو لم يفر 700 ألف عربي ، لكان اليوم يعيش حوالي سبعة ملايين عربي في إسرائيل ، ولن تنجو الدولة اليهودية من ذلك ".
لذا فإن بونديك يوافق على التطهير العرقي ،" ويبرر أنه في الحرب تحدث كل أنواع الأشياء الفظيعة ، وكانت حربًا فرضها العرب على إسرائيل".، وفقا لما يعتقد.
وبحسب ما صرح بونديك في إحدى المقابلات الصحفية، وحتى تتحقق الأهداف الصهيونية باقامة دولتهم على أرض فلسطين، تم بالفعل طرد حوالي 750 ألف لاجئ فلسطيني وتدمير أكثر من 500 قرية، حيث أصبحت المسألة منتهية، لأن مخطط التطهير العرقي لم يكن أيديولوجيًا صهيونيًا عامًا فحسب، بل كان أيضًا مخططا رسميا مطبوعا، يُعرف باسم خطة "دالت الهاجانية "، التي تم إطلاقها في 10 اذار 1948 ، أي قبل أكثر من شهرين من إنشاء دولة أو دخول الجيوش الأجنبية، وكانت تهدف الى السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي الفلسطينية وطرد أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين.
سعى بونديك إلى تصوير نفسه على أنه ليبرالي يهتم باللاجئين الذين يأتون الى أوروبا - طالما أنهم ليسوا فلسطينيين - هذا هو الحال في عمله الصحفي، وفي مقالاته التي كان يكتبها ، فتصبح وجهة نظره هي المؤثرة على النظرة السائدة الدانمركية لإسرائيل والصهيونية، كونه يعتبر نموذجا للصحفيين الذين يكتبون عن الشرق الأوسط ولديه معرفة هائلة بما يجري من أحداث، وعندما أصبح رئيسا لتحرير أكبر صحيفة في الدانمارك عمل على تشكيل الخطاب الدنماركي حول الصراع في العربي الاسرائيلي، وصل إلى "بطل في الحياة العامة الدنماركية. "
في قرية الطنطورة التي تعد من أكبر القرى على ساحل البحر المتوسط جنوب يافا، كان السكان يعيشون في صيد الأسماك والزراعة والعمل ،عندما هاجمتها عصابات الهاجانا، رد عليهم السكان بإطلاق النار من المنازل، ما جعل جنود اللواء الصهيوني غاضبين، وبعد استسلام القرويين ، سار الجنود عبر القرية وأطلقوا النار على الناس داخل المنازل وفي الشوارع، وتم فصل الرجال عن النساء وأجبرت النساء على الذهاب إلى قرية قريبة، وأُجبر الرجال على الجلوس وانتظار وصول ضابط المخابرات شينسون ماشفيتز، الذي كان يعيش في مستوطنة "جفعات آدا" القريبة، وكان يرتدي غطاء على رأسه ومعه معاونيه، وعين بعض الرجال ليتم إعدامهم وهم الرجال الذين شاركوا في الانتفاضة الفلسطينية 1936-1939، وشاركوا في الهجمات على الصهاينة، ولم يكونوا هؤلاء الوحيدون الذين أعدموا، حيث تم استجواب البعض حول مستودع الأسلحة في القرية، لم يكن مستودع الأسلحة موجودًا وعندما فشلوا في الرد ، تم إطلاق النار عليهم في الموقع، وحدثت معظم عمليات الإعدام على الشاطئ.
يعيش بعض الناجين من مذبحة الطنطورة اليوم في مخيم اليرموك للاجئين في سوريا ، وما زالوا يعانون من صدمة شديدة بعد تجاربهم.
كما كان هربرت بونديك أو ناحوم بونداك (بالعبرية) صحفيًا ومؤلفًا يهوديًا دنماركيًا، فإن ابنه رون بونداك عمل في مجال الكتابة مؤرخًا إسرائيليًا ، وقد لعب دورا حيويا في إقامة علاقات دبلوماسية بين الإسرائيليين والفلسطينيين مما أدى في النهاية إلى اتفاقيات أوسلو، وتوفي رون في عام 2014 بعد معركة طويلة مع السرطان، فيما قتل نجله الثاني أوري خلال حرب عام 1973.
يتحدث بونديك في اعترافاته عن قريتين أخريين بجانب الطنطورة، شارك في عملية التطهير العرقي .
في عام 2006 ، نشر بونديك سيرته الذاتية "إنها ليست كافية للبقاء على قيد الحياة". يتحدث فيها عن مشاركته في الحرب ضد الفلسطينيين..