jo24_banner
jo24_banner

غير مكتمل...

د. صبري اربيحات
جو 24 :
الكمال قيمة استحوذت على اهتمام الفلاسفة والحكماء والوعاظ، وسعى الجميع إلى تحقيقها. في مستهل حياة الأفراد، يجري تدريبهم على المهام التي يُعتقد أنها ضرورية للحياة. بعضنا يكمل المهام ويؤديها بمستوى يرضى عنها المربون، والبعض الآخر يتعثر مرة تلو الأخرى. وفي المدارس، يتبارى الطلبة في استيعاب المعارف والمهارات، ويستعدون لاختبارات التحقق من مدى فهمهم؛ من ينجح يتابع، ومن لا يستطيع يُمنح فرصة إعادة تلك الاختبارات، في حين يصنف من يخفق في إتمام متطلبات النجاح لموضوع أو أكثر على أنه "مكمل". فالإكمال يعني أن الفرد في مرحلة بين النجاح والإخفاق.

في مطلع السبعينيات، مع بداية تحول نظام التعليم في جامعاتنا من "السنوات الدراسية" إلى "الساعات المعتمدة"، دخل إلى قاموس القياس والتقويم الأردني اصطلاح "غير مكتمل" (Incomplete)، ليعبر عن الحالة التي لا يستكمل فيها الطلبة مقررات المساق لأعذار يقبلها المدرس وتسمح بها التعليمات.

ومع أن عبارة "غير مكتمل" لا تمثل قيمة يمكن قياسها، إلا أن بعض الطلبة غير الجادين كانوا يحرصون على المرور بها؛ فيتعمدون الغياب عن امتحانات المساقات التي لا يستوعبون مقرراتها، ويختلقون الأعذار لتبرير غيابهم خوفا من أن يخفقوا وكي لا يفاجأوا بنوعية ومستوى الأسئلة. وغالبية الطلبة الذين احترفوا التحايل على النظام، يستقوون بمكانات ومواقع ونفوذ آبائهم وأسرهم، ويعملون على توظيف صلاتهم وعلاقاتهم للتأثير على الأساتذة والقائمين على التعليم، من أجل أن يحصلوا على معاملة وتسهيلات تمكنهم من تجاوز عقبة الامتحان التكميلي، وتضمن لهم النجاح.

الطلبة الذين احترفوا التغيب عن الامتحانات واختلاق الأعذار، معروفون لدى معظم زملائهم؛ فهم الأكثر مواظبة على الأنشطة غير الدراسية، والأكثر استمتاعا بالحياة الاجتماعية، والأبرز حضورا في الحرم الجامعي، حيث يمضون جل أوقاتهم بالتسكع في المرافق والساحات وبين الأشجار.

اليوم، يمكن وبلا تردد وصف العديد من مشروعات الإعمار والمواصلات والتصنيع والاستثمار التي احتفلنا بإعلان انطلاقها قبل سنوات، بأنها في وضع "غير مكتمل"، من دون وجود مؤشر على قرب إنجازها. ولكأن العدوى انتقلت من نظامنا التعليمي إلى مشاريعنا الاقتصادية واستثماراتنا؛ فمعظمها لم يكتمل خلال الفترة التي تحدثت عنها العروض والمخططات.

الطريق المؤدية إلى قريتنا الصغيرة في الجنوب غير مكتملة، برغم أن المتعهد باشر التنفيذ قبل عامين. وأبراج عمان لم تكتمل، رغم أننا اعتقدنا أنها ستكون جاهزة قبل انتهاء العام 2008. والباص السريع الذي انطلقت التحضيرات له قبل ما يقارب عشر سنوات، ما يزال هدفا يؤكد الرؤساء والأمناء أنه قادم، من دون أن نراه.

في عمان وجاراتها عشرات المشاريع غير المكتملة التي توقف العمل بها منذ سنوات، لأسباب معروفة أو غير معروفة. لكن بعض الأسباب والتبريرات التي تقدم للتأخير، لا تختلف عن الأسباب والمبررات التي يستخدمها طلبة "غير المكتمل" في جامعاتنا.

أجزم أن كثيرا من المتعهدين والمنفذين ورجال الأعمال الذين يديرون المشروعات غير المكتملة، تعلموا الدوافع والمبررات والتكنيك لأساليبهم، من تجاربهم الجامعية والمدرسية. والمشكلة أن هناك تواطؤا بين بعض المدرسين والطلبة على استغلال وجود هذا المخرج، كما يتواطأ مسؤولون على تيسير استفادة المتعهدين من استخدام المبررات والأعذار التي تسمح لهم بتجاوز المدد المحددة، وإعادة تقييم الكلف للمشروعات.

أتمنى أن تعود بنا الأيام إلى نظام التعليم غير الحر؛ حيث يحدد ما إذا كان الطالب ناجحا أو راسبا من دون الحاجة إلى المساحة الرمادية التي يناور فيها من يستغلون هوامش الحرية للبحث عن المبررات التي تمكنهم من التحايل على النظام، والدخول في مفاوضات تحررهم من الشروط والالتزامات التي وضعت لتكفل حقوق الأطراف المنفذة والمستفيدة.

من المعقول أن يتجاوز مشروع أو اثنان موعد الانتهاء والتسليم؛ أما أن تتأخر الغالبية العظمى من المشروعات، فهذا أمر يصعب تبريره، وينبغي التوقف عن تقبله تحت أي مبررات.
 
تابعو الأردن 24 على google news