انتصار منطق الدولة
د. حسن البراري
جو 24 :
وكأننا أمام مشهد سريالي تتبخر فيه أحلام الرئيس التركي رجب طيب اردوغان على نيران التحولات في المشهد الإقليمي ومتطلبات الواقعية السياسية، وكأننا أمام فصل من فصول "رئيس الضرورة" تُقدم فيه التنازلات تباعا في سياق لعبة البقاء السياسي، فالاستدارة في الموقف التركي تعبر عن انتصار منطق الدولة في هذه اللحظة على أحلام "السلطان" للخروج من "مائة عام من العزلة" – نستميح ماركيز عذرا في التصرف في عنوان رائعته.
في الثاني والعشرين من يونيو أعلن بن علي يلديريم – رئيس الوزراء الذي جاء بعد أحمد داود أغلو – بأن بلاده ستعمل على "توسيع التعاون مع إيران" التي تقف في الخندق المضاد في الأزمة السورية. ولم يمض سوى أسبوع على ذلك حتى قامت الحكومة التركية في التاسع والعشرين من يونيو بالتوقيع على اتفاق تطبيع العلاقات مع إسرائيل بعد ست سنوات من القطيعة والجمود السياسي، وأي قراءة لمضمون الاتفاق تعكس تماما حجم التنازلات التي قدمتها الدولة التركية لإسرائيل. وقبل ذلك أي في السابع والعشرين من يونيو ايضا أعلن الرئيس التركي عن أسفه لإسقاط الطائرة الروسية وقدّم اعتذارا خطيا ورسميا للرئيس بوتين، وفي ذلك تراجع كبير عن موقف السابق بأن بلاده لن تعتذر عن الدفاع عن سيادتها! فروسيا كانت تصر طيلة المدة الماضية على الاعتذار التركي وعلى محاكمة من قتل الطيار الأمر الذي قبلته تركيا.
لا يمكن لأحد أن يلقي اللوم على الرئيس التركي على هذا التحول بعد أن وصلت سياسة تركيا إلى طريق مسدود، فلم يعد للتهديد والوعيد الذي برع فيهما الرئيس اردوغان أي معنى، فكانت الاستدارة التركية أو وفقا لتعبر رئيس وزراء تركيا الجديد "أعداء أقل واصدقاء أكثر" وكأنه بذلك يعقلن الاستدارة التركية ويضعها وفق مقاربة استراتيجية جديدة تستند إلى البراغماتية بدلا من الشعارات التي جعلت من اردوغان أقرب إلى الظاهرة الصوتية مستعيذا بذلك فصولا من اخفاقات "نجوم" الحناجر الملتهبة الذي جروا بلادهم إلى الويلات.
وحتى نكون منصفين، ما كان بإمكان تركيا أن تواصل ذات السياسة الإقليمية التي بدأت تتهاوى على وقع التدخلات الروسية وخذلان الولايات المتحدة لحلفائها في الإقليم وعلى رأسهم تركيا. فالمشروع التركي في الجنوب اصطدم بموقف أمريكا في تحديد أولويات وترتيب مصادر التهديد، ولم يجدي نفعا تهديد اردوغان للولايات المتحدة بأن على الأخيرة الاختيار بين تركيا وبين التحالف مع أكراد سوريا، وما من شك أن محاولات الرهان على ان واشنطن ستسترضي أنقره ترك تركيا في واقع الأمر من دون حليف وبخاصة بعد أن انتصرت الثورة المضادة في بلاد الربيع العربي على حساب الإخوان المسلمين الذين تراجعوا كثيرا في كل بلد وتحديدا في مصر.
إدراك أنقره المتأخر بأنها تنتهج سياسة خارجية فاشلة دفع الرئيس التركي على اتخاذ خطوتين ما كان لأحد أن يتخيلهما نظرا لشخصية اردوغان والبنية الذهنية العنيدة التي تعلي من شأن الذات والبلد التي يرأسها. غير أن حسابات الواقعية السياسية وتدهور الوضع الأمني الداخلي في تركيا والاخفاقات في السياسة الخارجية والرغبة في البقاء السياسي كلها أمور دفعت رجب طيب اردوغان إلى تجرع كأس مرير بالاستدارة نحو تل أبيب وموسكو. هذا لا يعني بأن الرئيس اردوغان سيغير من مواقفه تجاه الأزمة السورية، لكنه أدرك أخيرا بأن هناك ضرورة للتعامل بالقطعة وفصل الملفات (compartmentalization) بشكل يخفف من الضغوطات الخارجية، بمعنى أخر كل ما قام به الرئيس هو إعادة موضعة تركيا وفقا لتطور الأحداث وبخاصة مع تراجع فرص تحقيق رهانات اردوغان الإقليمية.
في الثاني والعشرين من يونيو أعلن بن علي يلديريم – رئيس الوزراء الذي جاء بعد أحمد داود أغلو – بأن بلاده ستعمل على "توسيع التعاون مع إيران" التي تقف في الخندق المضاد في الأزمة السورية. ولم يمض سوى أسبوع على ذلك حتى قامت الحكومة التركية في التاسع والعشرين من يونيو بالتوقيع على اتفاق تطبيع العلاقات مع إسرائيل بعد ست سنوات من القطيعة والجمود السياسي، وأي قراءة لمضمون الاتفاق تعكس تماما حجم التنازلات التي قدمتها الدولة التركية لإسرائيل. وقبل ذلك أي في السابع والعشرين من يونيو ايضا أعلن الرئيس التركي عن أسفه لإسقاط الطائرة الروسية وقدّم اعتذارا خطيا ورسميا للرئيس بوتين، وفي ذلك تراجع كبير عن موقف السابق بأن بلاده لن تعتذر عن الدفاع عن سيادتها! فروسيا كانت تصر طيلة المدة الماضية على الاعتذار التركي وعلى محاكمة من قتل الطيار الأمر الذي قبلته تركيا.
لا يمكن لأحد أن يلقي اللوم على الرئيس التركي على هذا التحول بعد أن وصلت سياسة تركيا إلى طريق مسدود، فلم يعد للتهديد والوعيد الذي برع فيهما الرئيس اردوغان أي معنى، فكانت الاستدارة التركية أو وفقا لتعبر رئيس وزراء تركيا الجديد "أعداء أقل واصدقاء أكثر" وكأنه بذلك يعقلن الاستدارة التركية ويضعها وفق مقاربة استراتيجية جديدة تستند إلى البراغماتية بدلا من الشعارات التي جعلت من اردوغان أقرب إلى الظاهرة الصوتية مستعيذا بذلك فصولا من اخفاقات "نجوم" الحناجر الملتهبة الذي جروا بلادهم إلى الويلات.
وحتى نكون منصفين، ما كان بإمكان تركيا أن تواصل ذات السياسة الإقليمية التي بدأت تتهاوى على وقع التدخلات الروسية وخذلان الولايات المتحدة لحلفائها في الإقليم وعلى رأسهم تركيا. فالمشروع التركي في الجنوب اصطدم بموقف أمريكا في تحديد أولويات وترتيب مصادر التهديد، ولم يجدي نفعا تهديد اردوغان للولايات المتحدة بأن على الأخيرة الاختيار بين تركيا وبين التحالف مع أكراد سوريا، وما من شك أن محاولات الرهان على ان واشنطن ستسترضي أنقره ترك تركيا في واقع الأمر من دون حليف وبخاصة بعد أن انتصرت الثورة المضادة في بلاد الربيع العربي على حساب الإخوان المسلمين الذين تراجعوا كثيرا في كل بلد وتحديدا في مصر.
إدراك أنقره المتأخر بأنها تنتهج سياسة خارجية فاشلة دفع الرئيس التركي على اتخاذ خطوتين ما كان لأحد أن يتخيلهما نظرا لشخصية اردوغان والبنية الذهنية العنيدة التي تعلي من شأن الذات والبلد التي يرأسها. غير أن حسابات الواقعية السياسية وتدهور الوضع الأمني الداخلي في تركيا والاخفاقات في السياسة الخارجية والرغبة في البقاء السياسي كلها أمور دفعت رجب طيب اردوغان إلى تجرع كأس مرير بالاستدارة نحو تل أبيب وموسكو. هذا لا يعني بأن الرئيس اردوغان سيغير من مواقفه تجاه الأزمة السورية، لكنه أدرك أخيرا بأن هناك ضرورة للتعامل بالقطعة وفصل الملفات (compartmentalization) بشكل يخفف من الضغوطات الخارجية، بمعنى أخر كل ما قام به الرئيس هو إعادة موضعة تركيا وفقا لتطور الأحداث وبخاصة مع تراجع فرص تحقيق رهانات اردوغان الإقليمية.
خصوم تركيا في الإقليم هللوا بأن الخطوتين اللتين قام بهما اردوغان تعبران عن اعتراف بهزيمة أمام مشروع "المقاومة والممانعة" الذي يقوده كل من الأسد وإيران بدعم من روسيا، وبالفعل حاول اليسار العربي تصوير الأمر وكأنه إعلان عن هزيمة! غير أن الواقع يشير إلى أن إعادة التموضع تعبر عن مرونة فائقة ستمكن اردوغان من تحسين العلاقات مع روسيا وإيران وإسرائيل من دون الاتفاق مع أي من هذه الدول فيما يتعلق بكيفية حل الملفات الإقليمية موضع الخلاف. في إيران، تهتم تركيا فقط في التعاون الاقتصادي الذي تستفيد منه البلدان ولا أرى بأن ذلك سيفضي إلى انقلاب في مواقف تركيا حيال الملفات التي تختلف فيها جملة وتفصيلا مع قادة إيران. وفي هذا السياق نستبعد أن تعيد تركيا علاقاتها الحميمة مع النظام المصري كما كانت في عهد الرئيس محمد مرسي لأن العداء بين اردوغان والسيسي يكاد يكون شخصيا.
باختصار، فشلت تركيا بامتياز في سياستها الخارجية، فعلاقاتها متوترة حتى مع حلفائها في النيتو وعلى رأسهم الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، ولم تتمكن من تحقيق أهدافها الإقليمية في سوريا، وبالعكس وصلت علاقاتها إلى حد العداء مع روسيا وإيران ناهيك عن مصر. ومن هنا نيمكن تفهم تراجع تركيا وانتهاجها مقاربة "أعداء أقل واصدقاء أكثر". ووفقا للباحث التركي الشهير في معهد واشنطن سونر چاغاپتاي فعلى الارجح أن تسير المصالحة مع إسرائيل على ما يرام في حين أن العلاقات مع روسيا وإيران ستسير بسرعة الحلزون نظرا للخلاف العميق في الموقف من سوريا. بمعنى إن الاستدارة التركية هي مجرد إعادة تموضع لتحسين موقف تركيا وتخفيف الضغط عليها في ظل إخفاق السياسة الخارجية وتدهور الوضع الأمني في الداخل التركي. وبالتالي فأن مد غصن الزيتون يهدف إلى التخفيف من وطأة الضغوطات الخارجية التي بدأت تلعب في الحديقة الخلفية للرئيس اردوغان.
بقي هناك ملاحظة أخيرة، في البلاد الديمقراطية التي تُحترم فيها إرادة الشعوب، يستقيل الزعيم عندما يفشل لأنه لا يمكن له إدارة ملف الفشل غير أن عهد المستبدين يشير إلى العكس من ذلك، والمفارقة أن القائدة في هذه الحالة يدير الفشل وكأنه انتصار!