عن طبعنا الوطني
فهمي هويدي
جو 24 : فوجئ كثيرون بالمعلومات التي تسربت عن هبوط مستوى الحوار بين ممثلي القوى السياسية أثناء التقاء الرئيس محمد مرسي بهم في مسعاه لإطلاق حملة الحوار الوطنى حول القضايا العالقة، وفي مقدمتها مشروع الدستور الجديد. من جانبى اعتبرت أن الجديد في الأمر هو أن ذلك الحوار تم في القصر الجمهوري وأمام الدكتور مرسي، الذي قيل له إنه فوجئ بالتراشق الحاصل بين بعض الحاضرين، الأمر الذي اضطره إلى تذكيرهم بأنهم في حضرة رئيس الجمهورية. فيما عدا ذلك فإن ما سمعه الرئيس كان امتدادا لما تحفل به وسائل الإعلام من اشتباك، لم يخل من وصلات «ردح» تستخدم مصطلحات وعبارات مما يعاقب عليه القانون، وفي الكثير مما تبثه تلك الوسائل المرئية والمقروءة فإن ما تقدمه يتعذر وصفه بأنه حوار، لأنه مسكون بالتحامل والكيد والاصطياد.
لست في وارد الاحتجاج على ذلك السلوك الذي يصدر عمن يعتبرون قوى سياسية ونخبا وناشطين وغير ذلك من الأوصاف المماثلة، لأن الأمر همَّني من زاوية مختلفة يختزلها السؤال التالي: هل هؤلاء يمثلون الطبع الوطني في مصر؟.. والسؤال بهذه الصيغة له قصة لا مفر من أن أرويها.
ذلك أنني كنت قد قرأت عرضا استوقفني لكتاب شهير لعالم السياسية الأمريكي مورجان ثاو عنوانه «السياسة بين الأمم». ولفت نظري فيه قوله ان الرؤية الاستراتيجية لأي بلد تتحدد في ضوء الربط الذي يقوم بين المصلحة الوطنية من جهة والقدرات الوطنية من جهة أخرى.
وإذا كانت المصلحة الوطنية مفهومة، إلا أن القدرات الوطنية فيها المتغير والثابت. المتغير يتمثل في الأوضاع الاقتصادية والصناعية وجودة الأداء السياسي وحجم المساندة الشعبية للنظام القائم...الخ. أما ما هو ثابت في القدرات الوطنية فيتمثل في أمرين، أولهما الجغرافيا حيث لا سبيل إلى تغيير الموقع الجغرافي إلا في ظروف. أما ثانيهما فهو ما أسماه بالطبع الوطني. ويقصد به السِّمة العامة لمجتمع. كأن يقال عن الفرنسيين مثلا إنهم مشهورون بالعقلية الديكارتية. وعن الإنجليز إنهم يتسمون ببرودة دمهم، وعن الروس خوفهم من السلطة ومن الأجنبي، وعن الأمريكيين إنهم منفتحون وسريعو التكيف مع الآخرين.
منذ ذلك الحين شغلني السؤال التالي: ماذا يمكن أن نقول عن الطبع الوطني للمصريين؟.. ظللت أبحث عن إجابة السؤال كلما وقعت على كتاب يتحدث عن الشخصية المصرية. كان في ذهني ما كتبه الإنجليزي إدوارد لين عن عادات المصريين المحدثين وشمائلهم. وما كتبه الدكتور جمال حمدان والدكتورة نعمات فؤاد عن شخصية مصر. والدكتور سيد عويس عن هتاف الصامتين والخلود. والدكتور جلال أمين في كتابه «ماذا حدث للمصريين». ووجدت كتابات أخرى في الموضوع للدكاترة على ليلة وأحمد زايد وسعيد فرج ومحمود عودة. كما وجدت أن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية قد نظم ندوة عالجت الشخصية المصرية من مختلف الزوايا.
وكان أهم ما خرجت به ثلاثة أمور أولها أن ثمة شُحَّا في الدراسات الاكاديمية الحديثة التي تناولت الموضوع، وان بعض الباحثين اكتفوا بالوصف دون التحليل والتأصيل، أما البعض الآخر فقد عني بإبراز الايجابيات دون السلبيات.
الأمر الثاني ان الأمر شديد التعقيد على نحو يصعب في ظله الخروج بخلاصة واضحة تحدد معالم الطبع الوطني. ولا يكفي في ذلك أن يوصف الطبع المصري بأنه ودود ومرن ويتسم بخفة الظل والفهلوة.
الأمر الثالث والمهم أن ذلك الطبع يمكن أن يتغير من مرحلة إلى أخرى. ففي أطوار المد والعافية يعبر الناس عن أفضل ما فيهم.
أما سنوات الجزر والانكسار فهي تستخلص من الناس أنفسهم أسوأ ما فيهم. يؤيد ذلك صاحب كتاب طبائع الاستبداد لعبدالرحمن الكواكبي، الذي ربط بين الاستبداد بفساد الأخلاق وزيادة معدلات الجنوح في مختلف المجالات.
هذا الكلام إذا قمنا بتنزيله على الواقع، سنجد أن الثلاثين أو الأربعين سنة الأخيرة في مصر، التي اقترن فيها الاستبداد بالفساد، أحدثت انقلابا هائلا أدى إلى تشويه طبائع أجيال المصريين، وانقلابا مماثلا في منظومة القيم السائدة. فقد انتشرت السلبية والانتهازية والأنانية بين المثقفين السياسيين. وتراجعت قيم الانضباط والكد والاستقامة في أوساط العاملين، كما اهتزت الكثير من القيم الأخلاقية والسلوكية التي صار استفحال ظاهرة التحرش من تجلياتها.
في تشوهات السلوك لا نستطيع أن نتجاهل تأثير الفقر وغياب القدوة والنماذج التي تحتذى ــ كما لا نستطيع تجاهل تأثير ثورة الاتصال التي نقلت العالم الخارجى بحسناته وسيئاته إلى كل بيت وكل الأجيال، إضافة إلى تأثير التليفزيون الذي قدم الإثارة والتشويق وتجاهل التقويم والتهذيب.
من ناحية أخرى، فان أحدا لا يستطيع أن يتجاهل تداعيات حالة البلبلة التي تعقب الهزات الكبرى وتسود في فترات الانتقال حيث يغيب فيها اليقين في حين يزدحم الأفق بأسئلة المستقبل الحائرة.
هذه الخليفة تسوغ لنا أن نقول إن المتحاورين المشتبكين والمتجاذبين أو المتشائمين هم إفراز أجواء التجريف والتصحر الذي عاشت مصر في ظله خلال العقود الأخيرة. وهي الأجواء التي لا تنتج سوى الشوك والمر الذي نلمس أصداءه بين الحين والاخر.(السبيل)
لست في وارد الاحتجاج على ذلك السلوك الذي يصدر عمن يعتبرون قوى سياسية ونخبا وناشطين وغير ذلك من الأوصاف المماثلة، لأن الأمر همَّني من زاوية مختلفة يختزلها السؤال التالي: هل هؤلاء يمثلون الطبع الوطني في مصر؟.. والسؤال بهذه الصيغة له قصة لا مفر من أن أرويها.
ذلك أنني كنت قد قرأت عرضا استوقفني لكتاب شهير لعالم السياسية الأمريكي مورجان ثاو عنوانه «السياسة بين الأمم». ولفت نظري فيه قوله ان الرؤية الاستراتيجية لأي بلد تتحدد في ضوء الربط الذي يقوم بين المصلحة الوطنية من جهة والقدرات الوطنية من جهة أخرى.
وإذا كانت المصلحة الوطنية مفهومة، إلا أن القدرات الوطنية فيها المتغير والثابت. المتغير يتمثل في الأوضاع الاقتصادية والصناعية وجودة الأداء السياسي وحجم المساندة الشعبية للنظام القائم...الخ. أما ما هو ثابت في القدرات الوطنية فيتمثل في أمرين، أولهما الجغرافيا حيث لا سبيل إلى تغيير الموقع الجغرافي إلا في ظروف. أما ثانيهما فهو ما أسماه بالطبع الوطني. ويقصد به السِّمة العامة لمجتمع. كأن يقال عن الفرنسيين مثلا إنهم مشهورون بالعقلية الديكارتية. وعن الإنجليز إنهم يتسمون ببرودة دمهم، وعن الروس خوفهم من السلطة ومن الأجنبي، وعن الأمريكيين إنهم منفتحون وسريعو التكيف مع الآخرين.
منذ ذلك الحين شغلني السؤال التالي: ماذا يمكن أن نقول عن الطبع الوطني للمصريين؟.. ظللت أبحث عن إجابة السؤال كلما وقعت على كتاب يتحدث عن الشخصية المصرية. كان في ذهني ما كتبه الإنجليزي إدوارد لين عن عادات المصريين المحدثين وشمائلهم. وما كتبه الدكتور جمال حمدان والدكتورة نعمات فؤاد عن شخصية مصر. والدكتور سيد عويس عن هتاف الصامتين والخلود. والدكتور جلال أمين في كتابه «ماذا حدث للمصريين». ووجدت كتابات أخرى في الموضوع للدكاترة على ليلة وأحمد زايد وسعيد فرج ومحمود عودة. كما وجدت أن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية قد نظم ندوة عالجت الشخصية المصرية من مختلف الزوايا.
وكان أهم ما خرجت به ثلاثة أمور أولها أن ثمة شُحَّا في الدراسات الاكاديمية الحديثة التي تناولت الموضوع، وان بعض الباحثين اكتفوا بالوصف دون التحليل والتأصيل، أما البعض الآخر فقد عني بإبراز الايجابيات دون السلبيات.
الأمر الثاني ان الأمر شديد التعقيد على نحو يصعب في ظله الخروج بخلاصة واضحة تحدد معالم الطبع الوطني. ولا يكفي في ذلك أن يوصف الطبع المصري بأنه ودود ومرن ويتسم بخفة الظل والفهلوة.
الأمر الثالث والمهم أن ذلك الطبع يمكن أن يتغير من مرحلة إلى أخرى. ففي أطوار المد والعافية يعبر الناس عن أفضل ما فيهم.
أما سنوات الجزر والانكسار فهي تستخلص من الناس أنفسهم أسوأ ما فيهم. يؤيد ذلك صاحب كتاب طبائع الاستبداد لعبدالرحمن الكواكبي، الذي ربط بين الاستبداد بفساد الأخلاق وزيادة معدلات الجنوح في مختلف المجالات.
هذا الكلام إذا قمنا بتنزيله على الواقع، سنجد أن الثلاثين أو الأربعين سنة الأخيرة في مصر، التي اقترن فيها الاستبداد بالفساد، أحدثت انقلابا هائلا أدى إلى تشويه طبائع أجيال المصريين، وانقلابا مماثلا في منظومة القيم السائدة. فقد انتشرت السلبية والانتهازية والأنانية بين المثقفين السياسيين. وتراجعت قيم الانضباط والكد والاستقامة في أوساط العاملين، كما اهتزت الكثير من القيم الأخلاقية والسلوكية التي صار استفحال ظاهرة التحرش من تجلياتها.
في تشوهات السلوك لا نستطيع أن نتجاهل تأثير الفقر وغياب القدوة والنماذج التي تحتذى ــ كما لا نستطيع تجاهل تأثير ثورة الاتصال التي نقلت العالم الخارجى بحسناته وسيئاته إلى كل بيت وكل الأجيال، إضافة إلى تأثير التليفزيون الذي قدم الإثارة والتشويق وتجاهل التقويم والتهذيب.
من ناحية أخرى، فان أحدا لا يستطيع أن يتجاهل تداعيات حالة البلبلة التي تعقب الهزات الكبرى وتسود في فترات الانتقال حيث يغيب فيها اليقين في حين يزدحم الأفق بأسئلة المستقبل الحائرة.
هذه الخليفة تسوغ لنا أن نقول إن المتحاورين المشتبكين والمتجاذبين أو المتشائمين هم إفراز أجواء التجريف والتصحر الذي عاشت مصر في ظله خلال العقود الأخيرة. وهي الأجواء التي لا تنتج سوى الشوك والمر الذي نلمس أصداءه بين الحين والاخر.(السبيل)