(ساعي بريد الغرقى) للشاعر العراقي (كريم راهي)
صدرت مؤخراً عن دار (نون) الإماراتية في رأس الخيمة، مجموعة (ساعي بريد الغرقى) للشاعر العراقي المقيم في السويد (كريم راهي)، محملةً بأربعة وأربعين نصاً شعريّاً، لتكون أول إصدار شعري مطبوع له بعد رحلة تزيد على الخمسة وثلاثين عاماً مع الشعر، لذا حملت نصوصها خصوصية مُشبعة بإرث المكان والذاكرة القصيين. فقد تجسّدت شخوص أصدقائه المغيبين وحضرت ذاكرة المعتقل السياسي وكذلك ذاكرة الحروب التي لا تقل مأساةً عنه، وبدت المجموعة وكأنها استحضار للذاكرة وإعادة للتمعن فيها بعد سنواتٍ طويلة من تراكمها، لتتشكل في منجز شعري ذي خصوصية شديدة. ورغم مجازها المكثف العالي والمشغول بتقنية الشاعر المتمكن من أدواته الشعرية، فقد رسمت صوراً فائقة الدقة منحازة للواقعية وبدت النصوص في مجملها ذات وجدانية واضحة.
المجموعة التي جاءت في 104 صفحات من القطع المتوسط، كُتبت أغلبُ نصوصها في العاصمة السويدية ستوكهولم في الفترة ما بين 2009 – 2011. هيّأت النصوص الأولى في المجموعة مدخلاً لعوالمها الأساس: الحب، الحرب والسجن، فمن افتتاحيتها التي كانت مقطعاً من أغنية مشهورة للشاعر والمغني الكندي (ليونارد كوهين)، والتي بدا أن لعنوانها علاقة خاصة بحياة الشاعر ألحَّ على استحضارها في أولى الصفحات، ثم نص الإهداء إلى (محمد راهي)، شقيق الشاعر الذي فُقد في الحرب العراقية الإيرانية سنة 1986 والذي لا يريد الشاعر فيه أن يصدّق سكوت قلبه لأنه لم يعثر له على جثة:
"لقد نال قلبك الزمن/ قلبك الرائي الذي/ بلغ أوجَ حطامه/ وتباعد ما بين دقاته."
ثم نص "خلاصة القول" المُهدى أيضاً إلى (نوري أبو رغيف) رفيقه في الزنزانة. لتأتي بعدها نصوص الحب والحب المضاع والكوابيس التي أصرّ الشاعر على تدوينها للخلاص من أثقالها.
يؤرخ كريم راهي لمفاصل هامة في حياته بإيجاز شعري مكثف، رحلة حياة مع التشرد والتخفّي والمعتقلات السياسية التي قضى فيها سنوات مريرة ثمّ تجارب أخرى مؤلمة في الحرب القسرية التي اقتيد إليها كأبناء جيله بالسياط ونجا منها بأعجوبة، تلك التجارب التي حملها معه كريم راهي إلى منفاه في السويد ليعيد إنتاجها شعرياً بعد جرعةٍ صافية من الهواء كانت تكفيه لأن يكتب عن الألم بروح متطامنة وبتصالح شديد مع الذات.
المرأة، المرارة، الحرب، السجن، الفقدان، النفي داخل الوطن وخارجه والخسارات في الحب، هي عناصر استند عليها الشاعر في بناء نصوصه الشعرية التي ترجمت حصيلة ذاكرته، لكن بالرغم من ذلك فقد بقيت هنالك عذوبة شعرية في النصوص الشعرية القصيرة منها والمطولة التي قدمها الشاعر لقارئه كرسائل من المغيّبين، المشار اليهم بالغرقى، الذين شاركوه حياته يوماً وكان هو الشاهد والناجي الوحيد من بينهم الذي حمل أمانة رسائلهم لمن سيقرؤونها، بخصوصية مميزة في لغته ومجازه وصوره الشعرية.
جاء غلاف المجموعة حاملاً لوحة للفنان (سعد عباس) فيما حمل الغلاف الخلفي صورة بورتريت له تحمل في طياتها معنى الهزء من الحياة بعدسة المصور العراقي الشاب (محمد عباس) و نصاً قصيراً من أروع نصوص المجموعة:
"مثل وحيدِ قرن
شاكيَ السلاح/ على ربوةٍ/ أحرسُ قملَ ايّامي وقُرادَها".
يقول عنه الشاعر: "هذا الكائن الذي لا أعداء له لكنه يحمل سلاحاً فتاكاً.. هو الإنسان يحرس ذاته من أجل لا شيء."
وقد وقعَّ الشاعر كتابه في بغداد، في واحدة من أيّام الجمع المتميزة بشارع المتنبي، وفي احتفالية لم ترعها أية مؤسسة ثقافية رسمية، غاب عنها ديناصورات الثقافة وحضرها جمع من الأصدقاء والشباب من الجيل الجديد من الشعراء الذي بدا وكأنه يحفظ أشعاره عن ظهر قلب، كاسرين بذلك الأعراف والسياقات السائدة حين احتفوا بالشاعر في فناء سوق للكتب المستعملة قرب مقهى "حافظ" بلا أجهزة صوت ولا طاولة للتوقيع، فقط أكتفيَ عبر ساعة من الزمن بقراءة نصوص من الديوان بأصوات عددٍ من أصدقاءه هم الشاعران مفيد البلداوي وعلي وجيه، والمسرحي العراقي المتميز فاضل عباس والشاعر نفسه، حيث تناوب الأربعة على قراءة مجموعة مختارة من النصوص بطريقة غير مخطط لها أذهلت الجمهور الذي لم يعتد هذا النوع من حفلات توقيع الكتب. فيما تجمهر حوله جيل الشباب المتحمس، وقوفاً وجلوساً في صفوف غير منتظمة ليستمتعوا بغرابة حفل توقيع غير مسبوق، أقرب إلى مسرح منه إلى حفل شعري.
يذكر أن (كريم راهي) من شعراء جيل لم يحفل بالنشر في حينه، بدأ يأخذ تسمية جيل (الهامش الحيّ)، تخرج مهندساً بداية ثمانينيات القرن الماضي، واعتقل بعد تخرجه بقليل في سجن أبي غريب، ثمّ أطلق سراحه ليعيش بعدها مطارداً بالعراق حتى خروجه عام 2001 للسويد، وله قيد الطبع مجموعة شعرية أخرى كتبها مؤخراً، كما إنه اتفق مع إحدى الجهات التي تُعنى بأدب الأطفال على طباعة نصوص شعرية في كتاب مدرسي سيذهب ريعه لصندوق الأطفال المصابين بالتوحد الذي انشأه راهي هذا العام