آخر حصون الأردنيين التي أبقت لنا وطنا
كان ذنبه أنه رفض البيع، والاستدانة، عرف أن الوطن ليس سلعة وليس حقيبة سفر تحمل بمهمات إلى دول يُقتطف منها العطف ويُستدر منها الجاه، لذا أبى أن يُباع أو يستتبع.
ويوم نادى الوطن كان حاضراً دونما هوادة، في أبهى أشكال الحضور، وبين جنباته وخاصرته وحزامه حجر يسدُّ بها جوعه، لذلك قالوا عنه إنه مستعد لأن يضع حجراً وحجرين، لكنه غير مستعد أن تمس كرامته، بيد أنه يحتاح للصدق في القول.
يا الله ما اجمل ذاك الأردني الذي كان هناك في الكرامة، وفي نيسان العام 1989 وفي جامعة اليرموك العام 1986 وفي الموقف الوطني الموحد والكبير لدعم العراق يوم جاءت الأساطيل لتطيح بالعراق ونخله، وهو الذي وقف في باب الواد مع حابس و هو الذي مشط الجبال في عمان يوم كان تحريرها شرطاً لنجاح ثورة أخرى، وهو الذي يقف اليوم على دوار فراس او العقبة أوالكرك بوعي الحرية وشرطها الأول وهو العقل وحب الديار.
هو الذي كان في سريته واقفاً في أبهة الحضور، ولكن يوم نادى الوطن جعل صدره للنار، وهو الذي ظل وفيا واقفا في صف الوطن، لأنه كان يعي أن الوطن لا ينقصه إيمان أو رجال، بل يحتاج للكل ليقفوا فيه صفا وبنيانا واحدا، وها هم وقفوا وتحمّلوا واصطبروا يوم رفع الدعم، فلم يُستطب لهم وله أن يروا الأردنيين أمام رغدان في غضب اللحظة ووجع الجوع وقد وصل العظم.
فما عليك ايها الوطن هنا إلا أن تصطبر، فكلّ أردني من أجلك يبقى ويموت، في رحاب وحرثا والمريغة والحسينية وزمال والحص، وماحص والفحيص وغيرها، لم يعد يفكر هؤلاء بأن المطلوب هو مجرد الدعم.
كانوا -وما زالوا- معك فكن أنت معهم ولهم، واعرف أيها الوطن أن الذين هبّوا للحفاظ عليك من الانزلاق مهندس في شركته، ومعلم في مدرسته وشيخ في مخيمه وحارس في مينائك، وجندي في غفارته، كلهم أرادوك صلباً عنيداً، ولم يطب لهم أن يروك منكسراً، فالانكسار لا يعرف إليك ممرا أو دربا.
هم الذين هبوا للتسجيل للانتخابات، وافشلوا كل الرهانات، وهم الذين لم يناموا تلك الليلة التي أطلت بها روح غريبة على شوارعهم، هم الذين لا يعرفون شرحا لقرار فك الارتباط او حقوق التمثيل او قانون الانتخاب الوهمي، او الحكومة البرلمانية، وإن دخلت بيوتهم أتوا اليك بأجمل ما يدّخرون.
هم الذين تحصّنوا بك، فتحصن بهم وابقِ عليهم لك خزانة وذخرا لزمن قادم، ولا تلتفت فقط للأرقام فالقادم صعب، وجوارك أيها الوطن أماكن قلقة ومدن منكسرة، ليس فيها حيلٌ يبلغها حدّ القيام.
هم الأردنيون وحصنهم الأخير بيوت العلم التي يرسلون إليها كل صباح طُلاب الزمن الجديد المليء بوعد الوعي والتجديد، هم الذين يضيئون لنا كل يوم دربا من دروب العلم، وإن سألتهم قالوا: «مستورة أو نعمة وفضل».
هم حصنك يا وطن، وما خذلوك وما بدلوا بك، وما توهموا بيتاً غير بيتك الكبير الذي كان وسيبقى فوق تلك التلة في رغدان يُذكر بزمن الكبار والحرية التي ولدت في حروفها أبجدية الوفاء والانتماء للوطن.
هم حصوننا التي نتذكرها، ومنها نتزود بزاد الوطنية هم رائحة وانجاز بقي يعطر آنام الوطن في ليله وصبحه كاسب صفوق الجازي ووصفي التل ودرعك الذي ابقاك ابراهيم حرب وحابس المجالي وفراس العجلوني وموفق السلطي وآخرون، من كتيبة الوطن الكبير وسرية الخلق الوفي، هم الذين خلدوك يا وطن فابقِ بهم روحك، وبروحهم تعطر كل صباح، هم باقون، لأنهم كل صباح سيرسلون لمدارسنا في القرى والبوادي المزيد من نوى المستقبل الذي على غيرنا يستحيل في صيغة مواطن أو مقيم.
(الدستور )