jo24_banner
jo24_banner

الأردن .. الرزاز وكل هذه العواصف

د. مهند مبيضين
جو 24 :
الفائض في قوة المجتمع نتيجة حتمية لصيرورة التحديث التي تصنعها قوة المعرفة، فيتطور الاقتصاد وتنمو الثروات، ويعيش الناس حالةً من الرفاه، لكنه في حالة المجتمع الأردني الراهنة، عكس ذلك، ولا يُمكن تفسيره بالأريحية الاقتصادية، أو القوة المالية الناتجة من نمو رأس المال أو فوائض الودائع، ونمو الدخل والاحتياطي من العملات وتخفيض الدين العام، بل هو قوة فائضة بالسلبية والخوف والتوتر والرغبة الجامحة لدى الجمهور بوأد الحاضر، بكل ما فيه من تآكل لوعود التنمية وتأخر الإصلاح السياسي.

المراقب للراهن في الأردن يجد أنّ المجتمع تسوده حالة من التنمّر والفوضى والإحباط، ورفض كلّ ما يأتي من الحكومة، وتصعد فيه الرغائب نحو اختراق المجال العام، وكلّ ما هو حكومي ورسمي، فتتسرب الوثائق والقرارات، وتبث على المسطح الأزرق (فيسبوك) الذي بات، أردنياً، ميدان من لا ميدان له. وفي موازاته، هناك المجموعات الافتراضية عبر تطبيق "واتساب" في الأردن، والتي تتشكل في ازدياد، وأخيرا تتجه المؤسسات الصحافية والتعليمية إلى تكوين مجموعاتٍ خاصة بأفرادها، تتواصل معهم عبرها، في ظلِّ تراجع الوسائل التقليدية للإعلام الرسمي الذي ما زالت ملكية بعض مؤسساته في قبضة يد الدولة بشكل عام، ويشق مسار النقد للأحوال العامة فيه طريقه بشكل ملحوظ، في محاولة من رؤساء تحرير الصحف اليومية إلى الخروج من النمطية التقليدية، وفتح ملفات وقضايا محلية، من دون محاباة للحكومات.

لكن تلك الحالة من السعي إلى استعادة دور الصحافة تقابلها الحكومة بالبرود، فهي تهتم أكثر

"يتنامى الضغط الشعبي الأردني ضد الحكومة، وضد توجهاتها، وضد سياساتها" بالمجال الافتراضي، وباتت تدرك قيمة "السوشال ميديا"، وأهميتها وخطرها وتأثيرها، أكثر، وتقرّر قراراتها في أثره، فبعض الوزراء يستفتي الناس في شأن وزارته أو قراراتها عبر تلك الوسائل الاتصالية، وهذا إيجابي، وبعضهم يعتبر كلّ ما يبث يقع تحت وقع خطاب الكراهية، ويستهدف إنجازات الحكومة وبث الشائعات. وقد يحدث تعطيلٌ لخدمات البث في محيط الدوار الرابع (قرب مقر رئاسة الحكومة في جيل عمان)، حيث معقل الاحتجاج الدائم ضد الحكومة وسياساتها منذ العام الفائت، وحيث يأتي الناس من الأطراف والعاصمة، ليطرحوا السؤال على حكومة عمر الرزاز: أين وعدكم بحريات سياسية ونهضة وطنية، وإلى أين تسير البلد؟

وبمثل ما يسأل الناس عن مصيرهم عبر "فيسبوك"، فهم يشكلون بياناتهم ومواقفهم ويكتبون أخبارهم، عبر "واتساب" الذي يشهد تدفق بيانات ومقالات وأخبار عديدة، بصدقها وكذبها، والتي ترسل بانتظام، عبر مجموعات أو أفراد، وهو ما يبرز النقد السياسي وأخبار الحراك الشعبي، وينقل الفيديوهات والصور، والتي باتت مجالاً تداولياً عاماً.

ولكن الحديث عن الأردن لا يتمّ من دون الإطلالة على الفضاء الفيسبوكي الأزرق، الذي بات الساحة العامة للناس، والتي نجحت، أخيرا، في تعطيل عدة قرارات حكومية، وشكلت حملات منظمة للنّيل من اتجاه الحكومة نحو قرارات محدّدة، مثل ترشيح الوزيرة السابقة لينا عناب سفيرة للأردن في اليابان، فقد جرى الاتهام والمحاكمة لها شعبياً قبل أن يُطالع المهتم بالأمر أي قرار قضائي بحقها على مسؤوليتها في حادثة مقتل نحو عشرين تلميذا وتلميذة في رحلة إلى البحر الميت، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.

لا تقف الأمور عند الصورة السلبية، فهناك استخدام جيد وإيجابي للفضاء الأزرق أردنياً، فقبل عامين بثت صورة لأطفال مدرسة في محافظة الطفيلة (جنوب)، أظهرت بؤس الحالة العامة للطلبة، ولكنها أحدثت ردة فعل إيجابية كبيرة لدى الأردنيين، فنهضت حملة وطنية وهبة شعبية لتغيير حال تلك المنطقة نحو الأفضل. وفي المقابل، هناك استعداد مسبق لعدم التصديق للروايات الرسمية، فالحديث عن المفاعل النووي قبل أعوام كانت معارضته عبر الفضاء الأزرق أكبر من أن تواجه، والكلام اليوم عن حوارات الحكومة مع الأطراف في مسألة التشغيل الوطني، وقبل ذلك حوارات قانون الضريبة، واجه موجة شعبية رافضة له، ولم يرَ الناس جلسات الحوار عبر شاشات التلفاز، بل عبر شبكة "فيسبوك"، وكل يوم ثمة قضايا تثار، وتكون هناك ردة فعل سلبية تجاهها، فحالات عديدة من الرأي العام في الأردن، ثبت أخيرا أنها كانت صناعة افتراضية. وفي مواجهة ذلك كله، تنشئ الحكومة منصّات إعلامية، مثل "حقك تعرف"، لمواجهة الأخبار الكاذبة والشائعات، لكن اللافت في مناقشة مجلس النواب الأردني، قبل أيام، أن النائب وفاء بني مصطفى قالت: "إن الرد على بعض الأسئلة الرقابية يقرأه النواب على منصّات افتراضية حكومية، مثل حقك تعرف، قبل أن يأتي الرد إلى مجلس النواب بصيغته التقليدية".

في ظلّ هذا الواقع الأردني، المعقد والمليء بالتحديات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، "المعارضة النيابية مع الشعبية مرشحة للتلاقي بشكل أكبر" يتنامى الضغط الشعبي الأردني ضد الحكومة، وضد توجهاتها، وضد سياساتها، ومسيرات الجياع والعاطلين من العمل قد تعود. ومع قرب شهر رمضان، يبدو التحدي مضاعفاً على حكومة الرزاز التي لم تستطع إعادة المحتجين إلى بيوتهم، على الرغم من أنها جاءت على أكتافهم. يحدث هذا كله في ظل ثبات العلاقة في صيغة الهدنة مع النقابات، والحركة الإسلامية، ولكن حديث حكومة الرزاز عن نظام فوترة مالية للنقابات قد يعجل بنهاية شهر العسل بين النقابات والحكومة التي ترى أن النقابات لا تدفع الضرائب الواجب دفعها.

وهذا ما سيدعم بواقي "المرابطين" في الدوار الرابع من المحتجين بدماء جديدة تزيد العبء على الحكومة التي يبدو أن رئيسها، الرزاز، باق،ٍ بعد أن ارتاح بأخذ الموافقة على إجراء تعديل حكومي موسع، كما تقول الصالونات العمّانية. وبالنظر إلى سلوكه وردود أفعاله، يبدو أنه بات أكثر انفعالاً وتوتراً، خصوصا في ردوده أمام مجلس النواب، والذي كان أكثر الشركاء عبئاً عليه، ومنحه ثقة مقبولة، لكن حين قرّرت حكومته محاباة بعض النواب فيه، بتعيين خواصهم، فإنها أعطت مبرّراً أكبر لنمو المعارضة، خصوصا في ظل الحديث عن مشروع قانون انتخاب جديد.

لذلك، المعارضة النيابية مع الشعبية مرشحة للتلاقي بشكل أكبر، إنها الكتلة التي باتت تخالف الرزاز، على الرغم من أنها لم تتشكل على قاعدة معارضة مشتركة بأهداف صلبة، لكنها التي قال بعض أعضائها من النواب، ومن رموز حراك الشارع في خطاب الثقة، وفي ما بعد هبة مايو/ أيار 2017، إن الرئيس الرزاز "يمثل أملاً وطنياً بالتغيير". أين ذهب هذا التوصيف، ولماذا تحول الرزاز من أملٍ وطني إلى خطر برأي بعضهم، هل لأنه تلقى دعماً أميركياً استثنائياً، أم لأنه محسوب على تيار بعينه، أم لأنه متهم بحصر خياراته بالأصدقاء، أم لأنه رجل صاحب خلق، ولا يكلف نفسه الردح والرد، وليس له قاعدة اجتماعية أو قبيلة تحمي ذماره. أم لأنه ذلك كله؟

هي حالة اعتراضية لا تقلّ تسخيناً أيضاً عن الحالة التي واجهت سلفه هاني الملقي، وأسقطته، "هدف الرزاز المقبل إعداد مشروع قانون انتخاب جديد، يسمح بتجديد الطبقة السياسية والنخبة البرلماني" بججة عدم خبرة الرجلين بعمق المشهد المحلي، وضعفهما في مواجهة الخصوم، والسعي إلى الترضيات، وهي ذاتها التي تشيع مناخ الاعتراض الذي قد يواجه خلفه، لكنها بالتأكيد حالةٌ لن يعود الناس فيها إلى الوراء، ما دامت الوعود والوجوه ذاتها والإخفاقات في ازدياد.

ختاماً، هدف الرزاز المقبل إعداد مشروع قانون انتخاب جديد، يسمح بتجديد الطبقة السياسية والنخبة البرلمانية، ويدخل شبابا جددا، هو هدف قد يؤجل رحيل حكومته، وقد يعدلها لتصبح أكثر انسجاماً وفاعلية، وسيكون الجدل بشأن مشروع قانون الانتخاب كفيلاً بإخفاء كل عيوب ما تبقى من عمر الحكومة التي سترحل دستوريا مع مجلس النواب في حال أقرّت قانون الانتخاب، المزمع تقديم مشروعه في قابل الأيام. وفي ظل بقاء عام واحد على عمر مجلس النواب الثامن عشر، فهذا يعني أن الرزاز سيبقى حتى العام المقبل، ما لم يحدث الاستثناء بعودة الجمهور، وخروج الأطراف بكثافة مرة أخرى، في هبّة مماثلة لهبّة إطاحة بحكومة هاني الملقي الذي لقيت حكومته حتفها أولاً عبر المسطح الأزرق الفيسبوكي، ثم بتوتره (الملقي)، وانعدام الانسجام في فريقه، والعناد مع الشارع، إنها نسخة الملقي في الرزاز تعود ثانية، بل أكثر هشاشة.


(العربي الجديد)
تابعو الأردن 24 على google news