jo24_banner
jo24_banner

من مأمنه يؤتى الحَذِر

د. صبري اربيحات
جو 24 :
الحكمة التي تقول "من مأمنه يؤتى الحذر" وجدت لتذكّر الأفراد بأهمية الحذر والتيقظ وتجنب التسليم الكامل للأشحاص أو الظروف التي يعتقد الفرد أنها أمنة، كما أنها توفر العزاء لضحايا الأفعال والانتهاكات والتعديات التي تقع على أرواحهم أو أعراضهم أو ملكياتهم أو حقوقهم الأخرى من قبل من يثقون بهم. اليوم نجد في هذه الحكمة أو القول المأثور هذا ما يعبر عن الكثير مما نسمع ونشاهد من اعتداءات وجرائم ترتكب بحق نساء من قبل الأزواح وأبناء من قبل الآباء أو الأمهات وكبار سن من قبل أبنائهم وأحفادهم وأشخاص معاقين من قبل من يوكل إليهم رعايتهم وشعوب من قبل قادتهم.
في كل هذه الحالات نجد أن مرتكبي الاعتداءات هم أشخاص وجماعات أوكل لهم المجتمع العناية والرعاية والاهتمام بمن جرى الاعتداء عليهم وفي البيوت والمنازل والمؤسسات والأوطان التي ظن الجميع أنها أكثر الأوساط أمنا وأقدرها على حماية الأفراد والعناية بمصالحهم ودفع الأخطار عنهم.
الدراسات التي أجراها العلماء على الأحياء بأنواعها المختلفة تدلل على وجود دوافع فطرية لدى مختلف فصائل الحيوانات والأحياء للعناية بصغارها وتوفير عناصر الحياة لها وحمايتها من الأخطار الماثلة والمحتملة وتولي الدفاع عنها حتى الموت. هذه الظاهرة تشمل الحيوانات الفقارية وغير الفقارية والثدييات وغيرها من الأنواع فجميعها تشترك في غريزة البقاء والحفاظ على النوع والرأفة بالصغار وإعطائهم الأولوية في العناية والرعاية والاهتمام.
في التاريخ الإنساني مارس عرب الجاهلية قتل صغار الإناث ودفنهن أحياء، وحافظ الفراعنة وقدامى المصريين على تقاليد تقديم الجميلات قرابين للآلهة وحرصت العديد من شعوب الثقافات الشرقية على دفن الزوجات أحياء إلى جانب الأزواج إضافة إلى قتل الضعفاء والتخلص من المرضى وكبار السن والمعاقين وغيرها من الممارسات القاسية التي لا تنسجم مع الأخلاق والمعايير والمواثيق التي شكلت ثقافات الأمم ونظمها التشريعية والإنسانية الحديثة. فمنذ صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وما تبعه من اتفاقيات وعهود وإعلانات وبروتوكولات والعالم يسعى إلى بناء ثقافة جديدة تقوم على تعزيز الكرامة الإنسانية وحماية الحقوق ورفع كل أشكال التعدي والتمييز التي قد يقع ضحيتها الأفراد ممن ينتمون إلى الفئات الأكثر عرضة كالنساء والأطفال والشيوخ والمعاقين والمهاجرين والأسرى وضحايا الحروب والكوارث والظروف الصعبة.
اليوم وبعدما اعتقدنا أن البشرية تجاوزت كل الممارسات البدائية المخيفة القاسية أصبحنا نشاهد كيف يقدم بعض الآباء على قتل كافة أعضاء أسرته بدم بارد، أو يقدم شاب على ذبح والدته وقطع رأسها كما يفعل الجزارون. إلى جانب عشرات القصص والأخبار التي نسمعها يوميا وتتناقلها المواقع الإخبارية حول الاعتداءات التي تقع على حياة الآباء والأبناء والأمهات من قبل من ظنوا أنهم مصدر لحمايتهم ورعايتهم.
في تفاصيل الروايات التي نسمعها عن جرائم القتل التي يكون فيها القاتل والمقتول آباء وأبناء وأشقاء وشقيقات، والاغتصاب الذي يقع على الضحايا في منازل أسرهم ومن قبل أفرادها والاستغلال الجنسي الذي يقع على الفتيات أو الأطفال في البيئات التي يعهد لها بحمايتهم، ما يبعث على الخوف والقلق والهلع. فالأسرة هي أكثر الأماكن أمنا حيث السكن والمودة والرحمة. ووقوع مثل هذه الاعتداءات داخل هذه البنى والتنظيمات يضع الأفراد جناة وضحايا في مهب الريح فلا أمن ولا استقرار ولا حماية ولا ثقة ولا ملجأ.
تكرار قتل الأبناء لذويهم والآباء لأبنائهم ظاهرة تشير إلى عمق الأزمة التي تعانيها الأسرة وحجم الضغوط التي يواجهها. الكثير من أسر اليوم فقدت القدرة على أداء مهامها ووظائفها بعد أن تركت وحدها تواجه المشاكل والضغوط والتغيرات، فلا يكفي أن نستمر في القول بأن الأسرة هي اللبنة الأساسية للمجتمع دون بذل جهد مؤسسي ومجتمعي لتقوية الأسرة ودعم بنائها ووظائفها وأدوارها.
القيم التي كانت تحافظ عليها الأسرة وتعمل على تدريب الأبناء على احترامها وتبنيها تبدلت كثيرا فأصبح الآباء والأمهات أقل إقناعا وتأثيرا للأبناء لاسيما وهم يتحدثون عن مثل وأفكار وأحلام لا يرى الصغار ما يدعمها أو يدلل على وجودها في حياتهم المعاشة أو مشاهداتهم.
الفقر والبطالة والمخدرات وانتشار استخدام التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي والجماعات الجديدة التي يمكن أن ينخرط فيها الأبناء أضعفت دور الوالدين في التربية والإشراف والتوجيه وأسهمت في وجود الكثير من الاختلالات في المراكز والأدوار والعديد من المشاكل والاضطرابات التي يتصارع معها الآباء والأبناء بعيدا عن أنظار واهتمامات المجتمع ومؤسساته المنشغلة في ضبط موازناتها وإنفاقها، متناسية الخلية الأهم واللبنة الأساسية ووكالة التنشئة الاجتماعية الأولى في حياة كل منا.
تصدع الأسرة وفقدانها الكثير من أدوارها في الرعاية والتهذيب والتنشئة والإرشاد والتوجيه قد يؤدي بنا إلى أن نستذكر الحكمة التقليدية "من مأمنه يؤتى الحذر".
 
تابعو الأردن 24 على google news