صفحات مطوية منذ عام 1928
أشرت في مقال سابق نشرته في ذكرى الاستقلال العام الماضي إلى تعمد النظام طمس التاريخ الأردني الحديث، وصفحاته المشرقة، ورجالاته الوطنية المضحية، وذلك لمحاولة طمس الدور التاريخي الرائد لهذا الشعب العظيم، وقطع الصلة والارتباط بين الحاضر والماضي والأبناء والأجداد، حتى يصدق الجميع أنه الوحيد صاحب التاريخ والشرعية والإنجاز والبطولات، وأننا كشعب لم نكن سوى مجموعة من البدو الرحل رعاة الإبل والفلاحين البسطاء الذين ليس لديهم أي تصور حقيقي عن الحياة السياسية والمشاركة فيها، والمطالبة بالحقوق وبأن نكون صانعي القرار في هذا الوطن، وتصوير الحراك الأردني الحالي على أنه حالة شاذة مصطنعة منبتة ليس لها تاريخ ولا عراقة ولا جذور، وللأسف فقد صدق حتى كثير من المثقفين والسياسيين هذه الأكذوبة وتساوقوا معها لأسباب كثيرة، لعل أهمها ضحالة ثقافتنا الوطنية، وعدم اهتمامنا بها، وعدم التقصي والبحث عن الحقيقة، فكان لزاما علي أن أكتب هذا المقال خصوصا ونحن نقبل على انتخابات نيابية بلا طعم، ولا لون، ولا رائحة، في ظل مقاطعة كثير من القوى السياسية والحراكات الشعبية الأردنية لها، وفي ظل استمرار مسلسل التهميش والاستهداف لمطالب الشعب الأردني المحقة في استعادة دولته سلطة وموارد.
وأنا هنا أعرض صفحة واحدة من صفحات عظيمة من تاريخ حركتنا الوطنية الأردنية المليء الزاخر بالكفاحات والنضالات والتضحيات، تتمثل هذه الصفحة في مقاطعة الحركة الوطنية الأردنية لأول انتخابات تشريعية جرت في البلادعام 1928 ، ورفض قانون الانتخاب الذي صدر في ذلك الوقت وكان على أساس الصوت الواحد أيضا، ورفض مشروع القانون الأساسي (الدستور) الذي صاغته لجنة حكومية بإشراف سلطة الانتداب البريطاني، باعتباره دستورا لا يمثل مصلحة البلاد وشعبها، والمطالبة بسن قانون أساسي (دستور) تضعه لجنة تأسيسية منتخبة من جماهير البلاد، وكانت هذه المقررات على إثر المؤتمر الوطني الأول الذي عقدته الحركة الوطنية الأردنية عام 1928 في مقهى حمدان في عمان برئاسة الشيخ حسين الطراونة رحمه الله، ومثل هذا المؤتمر جميع رموز وشخصيات الحركة الوطنية على امتداد البلاد، وتم تشكيل لجنة لمتابعة تنفيذ مقررات المؤتمر الوطني الأول، وتوعية جماهير البلاد بضرورة مقاطعة الانتخابات، وبيان مطالب الحركة الوطنية وأحقية الشعب في تقرير مصيره.
لقد نجحت الحركة الوطنية الأردنية نجاحا متميزا في ذلك الوقت في صناعة وعي سياسي لدى أبناء هذا الشعب العظيم، رغم استخدام النظام وحكومته الحيل والأكاذيب لإقناع المواطنين بالمشاركة، وكانت المقاطعة حقيقية مؤثرة نابعة من حس وطني رافض لأن يكون هذا الوطن رهنا للاستعمار البريطاني وسلطته الظالمة من خلال إرغام الشعب على الموافقة على قانون أساسي(دستور) لم تشارك جماهير البلاد في وضعه، والدخول إلى انتخابات تشريعية شكلية مزيفة هدفها إقرار المعاهدة البريطانية الأردنية، ورهن إرادة الوطن والشعب تحت قبضة الاحتلال البريطاني البغيض المرفوض لدى جميع الأحرار الوطنيين من أبناء هذا الوطن العزيز.
لقد بلغ نجاح المقاطعة حدا عظيما تمثل في عزوف دوائر انتخابية بأكملها عن التسجيل فضلا عن المشاركة، بالإضافة إلى مقاطعة عشائر بأكملها للانتخابات، بل إن بعض العشائر والعائلات فضلت الهجرة من البلاد اتقاء لشر المشاركة في عملية انتخابات تصب في إطار تأييد الخطط والغايات الاستعمارية للاحتلال، مما أدخل النظام وحكومته في أزمة حقيقية، بل لجأ النظام وحكومته إلى عدة إجراءات غير قانونية بغية إرغام الناس على التسجيل والمشاركة تمثلت في : إرغام الحكام الإداريين وضباط الجيش وجنوده وعدد كبير من موظفي الدولة على التسجيل، وإرغام المخاتير بمختلف الوسائل على المشاركة وحث عشائرهم على التسجيل، وفرضت رقابة صارمة على قادة المعارضة وزعمائها للحد من نشاطاتهم السياسية، وأعلنت الحكومة تمديد فترة التسجيل، وإعطاء الحق لمن أكمل الثامنة عشرة من عمره بالانتخاب بدلا من التاسعة عشرة المحدد للناخبين في ذلك الوقت للحصول على العدد الكافي لإنجاح عملية الانتخاب، بل وقام موظفو الدولة بتسجيل الكثير من المواطنين بعد مضي فترة التسجيل، واكتفت بكتابة الأسماء دون أخذ التواقيع، ووضع بصمات مزيفة لمواطنين لم يسجلوا أصلا، ولم يعلموا بعملية التسجيل تلك.
هذا كله وغيره من الإجراءات التي لم أذكرها طلبا للاختصار، تظهر لنا بشكل واضح جلي، أن هذا النظام وحكوماته ما زالت تكرر نفس السيناريو الاستبدادي التسلطي الظالم بحق هذا الشعب الأبي لإرغامه على تزوير إرادته، وإقصائه عن اختيار سلطته وصناعة قراره، وإقصائه عن أن يكون مصدرا للسلطات، حيث نرى نفس الإجراءات بحذافيرها تتكرر معنا اليوم في هذه الانتخابات التي ولدت ميتة هزيلة مزورة بعيدة كل البعد عن طموح وتطلعات ومطالب هذا الشعب الأبي المحقة العادلة، وذلك لإبقاء هذا الوطن وهذا الشعب رهنا لإرادة زمرة حاكمة تتحكم في موارد الوطن وثرواته وتسرقها وتبذرها وتبيعها، وتفقر الشعب وترهقه بالضرائب والأسعار، لإطفاء جذوة أي تحرك صادق مخلص يتطلع إلى الحرية والعدالة وكرامة الإنسان، وتحقيق الحد الأدنى من حقوقه، لذلك أوجه رسالتي واضحة جلية لأبناء شعبي الأحرار الأبرار، فأقول:
أخي الحبيب ..... أيها الأردني العزيز ...... لقد ولدت من رحم شعب حر أبي مناضل مجاهد، رفض الذل والعار منذ فجر التاريخ، ومنذ بداية تأسيس هذا الوطن، كافح من أجل حريته وكرامته وممارسة دوره وسلطته، لكن قمع النظام وسياساته".."على مر العقود الماضية، وسياسة طمس الحقائق وتزويرها، وتزييف التاريخ، وتجهيل الشعب وإبعاده عن ماضيه، ونشر ثقافة المكارم والأعطيات، ونسف ثقافة الحقوق والعزة والكرامة، ساهمت في ما وصلنا إليه من ذل، وهوان، وفقر، وبطالة، وإهدار لكرامة الإنسان، وبيع للوطن، ومقدراته، وأرضه، وإرادته، واستقلاله، فلا تكن شريكا في الجريمة جريمة بيع الوطن والإنسان، وقل كلمتك وقاطع الانتخابات المزيفة، وكن مشاركا في قول كلمة الحق والمطالبة بالحقوق وعلى رأسها استعادة الشعب لسلطته ووطنه.
مصدر المعلومات لمن يريد الاستزادة والتوثيق، كتاب: "الحركة الوطنية الأردنية 1921ــ 1946" للدكتور عصام السعدي ط1 / 2011 /أزمنة للنشر والتوزيع