في ذكرى الاستقلال ..... لكي نعلم .....!!!
يظن كثير من أبناء وطني إن لم يكن كلهم، أن هذا الوطن الغالي حصل على استقلاله وحريته هكذا جزافا أوصدفة، دون تضحية ولا فداء، ولا جهاد ضد المحتل الغاصب، ولا دماء سالت في سبيل تحريره من الأعداء وعملاء الأعداء، وقد أعذرهم في ذلك فقد عمد النظام السياسي في الأردن على مدى تسعة عقود خلت - من عمر هذه الدولة- إلى طمس الهوية الأردنية والتاريخ الأردني، وطمس دور الحركة الوطنية الأردنية في بدايات هذا القرن، وطمس أسماء الشخصيات الأردنية الوطنية التي كافحت وقدمت، وبذلت الدماء والأرواح في سبيل أن يبقى الأردن حرا أبيا عصيا على التطويع، والاحتلال، والارتهان لإرادة الأجنبي التي كان النظام جزءا من تكبيلنا بها منذ أول يوم تأسس فيه.
لقد سعى النظام ومازال إلى إبراز هوية الفرد الواحد، وإنجازات الفرد الواحد ممثلا برأس النظام في كل مرحلة تاريخية، وإخفاء وطمس ونسيان كل الشعب، وكل الشخصيات الوطنية وتضحياتها، وذلك في محاولة بائسة يائسة لطمس الدور النضالي لهذا الشعب، وبتر صلة الحفدة بالأجداد، والآباء بالأبناء، و ليكون هو وحده المستحق للتعظيم والتكريم والتعييش، وأن تنسب كل الإنجازات، بل كل الوطن لشخصه فقط، وتلك هي الطامة الكبرى، حيث ينسلخ الشعب عن ماضيه، فلا يجد ماضيا مشرقا ينطلق منه، ويؤسس عليه مجدا للحاضر والمستقبل، ولا يجد مخزونا من الكرامة، والحرية، والإباء، ورفض الظلم ينهل منه، ولكن آن الأوان لنا جميعا –إخواني- أن ننفض الغبار عن تلك الصفحات المشرقة المطوية من تاريخ أرضنا وشعبنا، ونحييها رغم أنوف الظالمين المجرمين الذين يريدون طمس الهوية.
أحبتي لقد كان أهالي شرقي الأردن من أوائل المكافحين ضد الاحتلالين الفرنسي والبريطاني، حيث تمسك الأردنيون بوحدة البلاد العربية، ورفضوا مخطط (مؤامرة) سايكس-بيكو للتقسيم، ونادوا مع غيرهم من شعوب المنطقة بوحدة الأراضي السورية التي كانت تشير في ذلك الوقت إلى كل الأرض الممتدة من حدود مصر غربا، إلى الفرات شرقا إلى أجزاء واسعة من شمال جزيرة العرب، وقد شارك الأردنيون في المؤتمر السوري العام الذي عقد في أيار عام 1919 كممثلين عن شرقي الأردن منهم : سليمان السودي الروسان، وعطوي المجالي، وعبدالرحمن ارشيدات، وسعيد أبوجابر، وناصر بركات الزعبي وغيرهم، وعندما سقط الحكم العربي بعد معركة ميسلون غير المتكافئة، واحتلت فرنسا سوريا ، آوى أهالي شرقي الأردن الثوار السوريين، ودعموهم بالسلاح والمال، وشارك الأردنيون بأنفسهم بقوة وبسالة في الثورة السورية ضد الاحتلال الفرنسي، وكانت شرقي الأرن منطلقا لكثير من العمليات المسلحة ضد الاحتلال الفرنسي إلى درجة ضجت منها فرنسا وفكرت جديا بغزو شرقي الأردن للقضاء على الثوار السوريين والأردنيين في تلك المنطقة.
ولقد شكلت الانتفاضات الشعبية ضد الظلم والطغيان والاستبداد، وضد إقصاء الشعب عن تقرير مصيره وعن مشاركته في الحكم، وضد الاحتلال الإنجليزي وعملائه، عماد الثورة الشعبية على المحتل في شرقي الأردن، وكان أول تحرك في ذلك الاتجاه انتفاضة الكورة عام 1921م بقيادة كليب الشريدة، والتي ساهمت قوات النظام وقوات الاحتلال البريطاني وطائراته بإخمادها، وإصابة العديد من شرفاء هذا الوطن فيها بين شهيد وجريح. وكذلك كانت انتفاضة العدوان في السلط عام 1923 بقيادة الشيخ (سلطان العدوان)، والتي مثلت أول مشروع وطني حمل مطالب جريئة عظيمة لاقت تأييدا واسعا من كثير من الشخصيات الوطنية ذلك الحين، كان من أبرزها: إقامة حكم وطني، وتأسيس مجلس نيابي حقيقي تكون الحكومة مسؤولة أمامه، وإنجاز استقلال البلاد، وإشراك أبناء البلاد في مسؤولية الحكم، والحد من سلطات الأمير، وإطلاق الحريات العامة، وإلغاء الضرائب والديون التي أثقلت كاهل الفلاحين البسطاء، وإذا ما نظرنا إلى هذه الغايات السامية بعين الإنصاف نجدها تتقاطع -وبشكل كبير- مع كل مطالب الحراك الإصلاحي في الوطن اليوم، مما يشير إلى أن الأردنيين سبقوا الأمة كلها بهذه المطالب، ومن أوائل تأسيس الإمارة قبل 90 عاما وأن حراكهم لم يكن بدعة، أو تقليدا أعمى كما يقول المغرضون والمنافقون عن شعبنا الأردني الأبي وحراكه المخلص الصادق، ويجدر بنا أن نذكر أن هذه الانتفاضة المباركة (انتفاضة العدوان) دفعت ثمنا للحرية والكرامة والاستقلال، وقول كلمة الحق 73 شهيدا أردنيا من خيرة أبناء هذا الوطن، قضوا بنيران قوات النظام وقوات الاحتلال البريطاني التي فتكت بهم. ولا ننسى أيضا انتفاضة وادي موسى عام 1926م، إثر منح امتيازات شق طريق معان- وادي موسى لشركات صهيونية مشبوهة، كانت تسعى إلى السيطرة على شرقي الأردن، وتأسيس موطئ قدم فيه، وليس الاكتفاء بفلسطين فقط، حيث انتفض السكان مرتين في شباط وآذار من نفس العام في محاولة لإحباط ذلك.
أما المؤتمرات الأردنية الوطنية من مؤتمر أم قيس والسلط عام 1920م، إلى المؤتمرات الوطنية الأول والثاني والثالث والرابع، من عام 1928م إلى عام 1932م، فقد كانت بحق من أبرز محطات الوعي السياسي للشعب الأردني، حيث نصت قراراتها على رفض مؤامرة تقسيم البلاد العربية، والسعي إلى الوحدة والحرية والاستقلال، ورفض وعد بلفور رفضا قاطعا، والوقوف في وجهه ووجه عصابات اليهود بكل ما أوتوا من قوة، وتأسيس حكم وطني قائم على أن الشعب مصدر السلطات، مشارك في صناعة القرار، ورفض الارتهان للأجنبي، ورفض المعاهدة الأردنية البريطانية الجائرة الظالمة التي أبرمها النظام الأردني مع بريطانيا عام 1928م.
ويجب أن نسطر بحروف من نور الثورة الأردنية المباركة ضد الاحتلال البريطاني وعصابات اليهود، بعد اندلاع الثورة الفلسطينية المجيدة ضد المحتل البريطاني وعصابات اليهود عام 1936م، على إثر استشهاد شيخ المجاهدين عزالدين القسام في يعبد، وقد ساندت الثورة الأردنية الأشقاء في فلسطين بالإضرابات العامة، والمظاهرات العارمة التي عمت جميع الأراضي الأردنية،ورفض استقبال لجنة التقسيم في عمان، ونصت في مؤتمر أم العمد في حزيران/1936 على خوض الكفاح المسلح إلى جانب الشعب الفلسطيني، وجمع المال والسلاح، ومشاركة الأردنيين بأنفسهم في الثورة الفلسطينية، وقد استجاب مئات المقاتلين الأردنيين وشاركوا في جبهات القتال في فلسطين، واستشهد عدد منهم، كما انطلقت الثورة الأردنية من عام 1937م إلى عام 1939م ضد الاحتلال وأعوانه في شرقي الأردن، وتمثلت بمهاجمة الثوار لأنابيب النفط ونسفها، وزرع الألغام في الطرق التي سلكتها قوات النظام وقوات الإنجليز لملاحقة المجاهدين الأردنيين والسوريين والعراقيين، وقامت فرق الثوار بمهاجمة دوريات الاحتلال ومخافره ومقراته، وأوقعت الخسائر الكبيرة بينهم في الأرواح والمعدات وغنمت الأسلحة منهم، وقامت المؤسسات الوطنية الطلابية بإعلان الإضراب، واندلعت المظاهرات الطلابية الصاخبة في كل مناطق الوطن شمالا ووسطا وجنوبا، وامتدت حركة التطوع في صفوف المقاومة الأردنية إلى أوساط الجيش الأردني وقوة الحدود، ومنهم من خالف أوامر قيادته بتعقب المجاهدين، وقاموا بدعم الثوار بالسلاح والعتاد سرا، وقد استشهد العشرات من أبناء الشعب الأردني الأبي في هذه الثورة المباركة دفاعا عن وطنه وحريته وكرامته، وطلبا للاستقلال، ونصرة لأشقاء الدم والعقيدة في فلسطين.
أحبتي هذا غيض من فيض، وقليل من كثير، وموجز كتبته على عجالة، عن تاريخ عظيم مشرق طمس وما زال يطمس ويغيب عن الأجيال الحاضرة والقادمة، علينا جميعا أن نساهم في إحيائه، وتوعية الناس به، وربط الماضي بالحاضر، لنكون مؤهلين لصناعة المستقبل.
هذه هي معاني الاستقلال، وهكذا نفهمه وهكذا نريده معنى حقيقيا لطلب الحرية والعدالة والكرامة، لا عبودية للأشخاص وتقديسا وعبادة للبشر وتطبيلا وتزميرا ونفاقا، بل هو تجديد إيمان وإخلاص وعهد ووفاء مع الله رب البشر، ولا يتم معناه إلا بتقرير الشعب لمصيره حقا، واختيار حكومته، ورفع أيدي الظلم والاستبداد والفساد عنه وعن مقدرات الوطن، وأن يملك الوطن إرادته السياسية الحرة، ويفك نفسه من نير الاستعباد للدول الكبرى، والتدخل الخارجي، والمديونية والفساد الذي طال كل مفاصل الدولة، فيتجسد بذلك استقلالا حقيقيا له حقيقة وجوهر.