التوقيف الإداري.. تغييب للعدالة وتجاوز على القضاء
جو 24 :
كتب تامر خرمه -
فصل السلطات ليست أهمّ ركائز الديمقراطيّة فحسب، بل هي حجر الرحى في بناء دولة القانون، وبغير ذلك فإنّه يصعب الحديث عن بلوغ مفهوم الدولة الحديثة. معنى ذلك أنّه في غياب هذه الركيزة، فإنّنا إمّا نتحدّث عن دولة توتيلاريّة، كتلك الحالات التي عفى عليها الزمن، وإمّا أنّنا نتحدّث عن مجتمعات ما قبل الدولة.
الدستور وحده لا يكفي لتحقيق الفصل بين السلطات الثلاث، فكثيراً من الدول ضمّنت دساتيرها هذه المسألة، ولكن كما يقال فإن الشيطان يكمن في التفاصيل، والتفاصيل هنا تتعلّق بالتدابير الإجرائيّة، أو بعض الصلاحيّات التي قد تمنح لإحدى هذه السلطات، فتسقطها بالتالي في شبهة التغوّل على سلطة أخرى.
في العالم الثالث عموماً من الصعب الحديث عن سلطات ثلاث اكتمل الفصل بينهما، خاصّة فيما يتعلّق بالسلطة التشريعيّة، التي يعدّ منحها الصلاحيّات الحقيقيّة المفترض أن تتمتّع بها، هو المدخل الوحيد للديمقراطيّة. مع الأسف في هذه المنطقة لا يشارك في الحكم سوى سلطتين، التنفيذيّة، والقضائيّة.
على أيّة حال، فإنّه رغم غياب الديمقراطيّة النيابيّة عن كثير من دول المنطقة، ومنها الأردن، مازال بالإمكان الحديث عن وجود مشاريع دول، يسود فيها القانون، ليتجاوز تدريجيّاً أنماط ما قبل الدولة، ويعرقل بالتوازي مع ذلك محاولات اجترار صيغة الدول الشموليّة المستبدّة.
ولكن ماذا لو أعطيت السلطة التنفيذيّة صلاحيّات قد تسهم في تجاوز حدودها إلى حدود صلاحيّات السلطة القضائيّة؟ ألا يعدّ ذلك مؤشّراً خطيراً يهدّد بتقويض دولة القانون، مهما بلغت ضآلة هذه الصلاحيّات. مثال ذلك منح وزارة الداخليّة أو الحكّام الإداريّين التابعين لها صلاحيّة حجز حريّة مواطن، قبل -وأحيانا دون- صدور أيّ قرار قضائيّ بذلك.
مثل هذه الصلاحيّة -غير المبرّرة- لا تنذر بتجاوز الدستور إلى حالات مشابهة لتلك التي كانت تشهدها الدول التوتيلاريّة فحسب، بل تهدّد بانتزاع ثقة الناس، وشعورهم بالأمن والأمان، الذي لا يمكن ضمانه إلاّ بفرض القانون على الجميع ودون استثناء، بحيث يكون الحكم هنا للسلطة القضائيّة دون أيّ شريك أو منازع.
تقويض البرلمان بات مسألة محسومة، والحديث عن استعادة هيبة السلطة التشريعيّة يحتاج إلى مساحات أخرى، ولكن اليوم لا بدّ من التحذير من الاقتراب من دائرة صلاحيّات السلطة القضائيّة، لا سيّما في ظلّ تزايد حالات التوقيف الإداري مؤخّراً، لدرجة تستوجب القلق.
بأي حقّ تمّ منح الحاكم الإداري صلاحيّة انتزاع حريّة مواطن دون صدور حكم قضائيّ بذلك، وبعد أن يكون القانون قد أخذ مجراه؟! ومن سيعوّض هذا المواطن في حال برّأه القضاء عن الأيّام التي سرقت من حياته؟! هل بإمكان الحاكم الإداريّ الذي أصدر قرار التوقيف القيام بسداد ما فقده المواطن من عمره الخاص؟!
والأنكى من هذا أنّه حتّى بعد صدور قرارات السلطة القضائيّة بإخلاء سبيل موقوفين، فإن الحكّام الإداريّين يصرّون على استمرار احتجاز حريّاتهم. ترى، أليس في هذا تجاوزاً على صلاحيّات أهمّ السلطات، فيما يتعلّق ببناء دولة القانون والمؤسّسات؟!
كما أن كثيراً من الحالات تكشف قيام حكّام إداريّين بحبس مواطنين دون وجود أيّ مبرّر قانوني لذلك، بحجج مختلفة، وفّرتها لهم بعض النظم المعمول بها. الحريّة هي أثمن ما يمتلكه الإنسان، واحتجازها دون مبرّر كاف مسألة قد تفوق في خطورتها قضيّة سياسات الإفقار.
إصلاح هذه النظم ضرورة لا تحتمل التأجيل، أن تعيش في دولة فإن هذا يفترض أن يعني أنّه ليس من حقّ أيّ كان ومهما كان منصبه، الاعتداء على حقّ أحد، أو أن يصادر حريّة إنسان، بعيداً عن حكم القضاء. فهذه من بديهيّات مفهوم العدالة.