"سفر بلا غبار".. رسم معالم القصة بمقتنيات المرأة وخصوصياتها
يجب أن يبق الفن محلقا في سماء الجمال وإن تطرق للمبادىء، وفي مجموعتها القصصية تنحاز القاصة ذكريات حرب لقناعتها، من دون التخلي عن أدوات القص، أو الحياد عن درب الفن.
مضى على تماس أصابعنا المتزاحمة على قراءة الأبراج خمس سنوات، حينها سألتِ “جوزاء؟”، أجبتُ بالايجاب، التهمنا البرج، ومن ثم درجت الأصابع إلى خانة ثانية، توقفت أنظارك للحظة، ورفعت نظرك باتجاهي، ” وهو كمان برجه …؟”.
يومها صرخنا وضحكنا في وقت واحد “ليكون هو نفسه؟”، واجتمعنا على فنجان قهوة وتعاهدنا على أن تكتب إحدانا القصة، ولم نكتبها حتى اللحظة.
ومازلت بانتظارك لتكتبيها أنت يا ذكريات، بذات الطريقة التي تأخذين بها الإذن لقرائك كي يدخلوا عالمنا العصي على الفهم، عالمنا الذي صاغته وتصوغه تناقضات الأمس واليوم، فتدفع ابنة حواء ثمن تلك التناقضات حرمانا، بينما يدفع ثمنه ابن آدم قسوة.
في الغالب لا يرى المجتمع من الأنثى، إلا جسدها وفتنتها ورغبتها الدائمة في اقتناء الثياب ومواد التجميل، ولعلنا نحن فقط، القادرات على تمييز تلك البسمة المكتنزة بالأسئلة المؤلمة، التي تحوم في مخيلة كل فتاة.
إن لم تعلن ذكريات حرب في مجموعتها القصصية الأولى أنها منحازة لقضية المراة، كون الفن لا يحتمل جمود إعلان كهذا، إلا أن الصفحات الـ (144) تأخذ بيد القارىء وتجوب معه عالم المرأة ومجتمعها ليفكر رغما عنه “هل حقا مجتمعنا الذي نتغنى بثقافته وتقاليده عادل؟”.
لكل قاص طريقته في رسم معالم قصته، فالبعض يعتمد على المشاهد القائمة على التمازج بين المكان وأحاسيس الشخوص، وهنالك من يعتمد على المكان وأجواء القصة، إلا أن ذكريات ترسم أجواء قصصها بخصوصيات المرأة؛ حقائبها، هداياها لحبيبها، شعرها، قلم الكحل، جدار غرفتها ومريول المدرسة.
وانتصرت ذكريات للفكرة الطاغية في مجموعتها، عندما اختارت عنوان المجموعة “سفر بلا غبار” للقصة التي تسأل بطلتها يوم دعا السفر زوجها لأجل العمل “منذ متى كان هنا أو هناك؟”. لتستفيق على أن شكل الوسادة الملاصقة لوسادتها بدا وكأنه لم يتغير، لتفتح الباب مشرعا على الأسئلة “مجتمعنا إلى أي درجة يدرك حاجة المرأة للحنان والمشاركة الحقيقية في الزواج؟”
تكثيف يستحق التأمل
اختارت ذكريات تقسيم مجموعتها لجزأين؛ قصص قصيرة وقصص قصيرة جدا، ورغم رفض نقاد وقصاص للقصة القصير جدا، كونهم يرونها تفتقر لمكونات القص، إلا أن القصص التي تزيد عن الخمسين في هذه المجموعة، تدفع للتفكير بأحقية هذا الفن أن يندرج تحت مسمى القصة.
فهي لم تأت من فراغ، ولم تختزل من فراغ، ففي قصة “غيرة” تجعل من السطرين ونصف السطر، شباكا صغيرا، تدعو القارىء كي ينصت جيدا لأحداث تدور في مخيلته حول الصراع بين الأم والابنة، بعد أن كبرت الابنة وبدت فتنتها.
التفصيل هنا ليس مهما، وفرد السطور لا داعي له، ولا حتى دخول المنزل وتفحص ملامح الفتاة ووالدتها، كل مافي الأمر أن هاتين المرأتين تشبهان شريحة واسعة من المجتمع، أنصت للأسئلة المتعددة وغير المعلنة في القصة وانتقل فورا إلى التي تليها.
نتنقل بين خصوصيات المراة وخلجاتها، التي لا يعرفها ولا يسمع عنها المجتمع، وفي الغالب تتردد بعض الكاتبات من اطلاع أقلامهن عليها؛ خشية من نظرة المجتمع إليهن، ويبدو واضحا عدم انصياع ذكريات لتلك النظرة أثناء كتابتها.
ولا يتجلى ذلك بعرض المشاهد الحميمة في القصة بقدر ما تجلى في قصة “شيء.. ناقص” وهي قصة تنطوي على سؤال مبطن، يدور في بال غالبية الفتيات في مجتمعنا، وكلنا يخشى إعلانه خوفا من فزاعة الحلال والحرام، التساؤل لا تطرحه الكاتبة، لكنه يتردد في ذهن القارىء حال انهاء القصة ” يفرض المجتمع الحجاب على المراة، لكن هل كل النساء يقبلنه؟”.
ويبدو الرمز في بعض القصص مغريا بالتفكير والتوقف أكثر، فقصة “خصوصية” وإن تضمنت حدثا عابرا لامراة تطمح بمساحة خاصة لها وحدها، تنتهي بحدث ذكي، عندما يدق الشرطي شباك سيارتها ويخبرها بأن المكان، الذي اختارته لتعيش عزلتها داخل سيارتها وعلى ناصية شارع، إنما هو “مكان مشبوه”.
في الواقع إن قارىء القصص القصيرة جدا لذكريات سيجد أنها لم تعكف طيلة السنوات الماضية على قراءة الكتب وحسب، بل إنها قرأت المجتمع، فكرت بتفاصيله، سمعت آهاته، وأتت بها مركزة كما العطر، قليل مختصر ويحمل الكثير من المعاني، وهذا النوع في الحقيقة من الكتابة يتطلب جهدا كبيرا وبراعة.
رحلة في مشاعر النساء
أما في القسم الأول من مجموعتها فتبدأ المجموعة بقصة “كما كل يوم”، تعرض فيها ليوم يشكل ملخصا لحياة امرأة، وكأنها تتحدث من خلال هذه المراة التي لم تسأم الرتابة، عن مجتمع بأكمله لا يطمح في التغيير.
وفي خبايا هذا المجتمع ثمة حكايات، قد لا يقبل البعض فكرة أن تحب المرأة رجلا متزوجا، لكنها موجودة وتفرض ذاتها، ومن خلال هذه الحكايات تسلط الاضواء على جانب من حياة امراة تحب زوجا لأخرى، البراعة في القص تبدو هنا، عندما تقمصت القاصة دور البطلة.
بدأنا نسمع الرواية منها، ننحاز إليها، نتعرف إلى ما لا نعرفه من خصوصيات تلك العلاقة، “أحبك كما تريد لا كما أريد”، وهو يوجه اهتمامه لأسرة تحتاجه، وزوجة لا يرى أي مشكلة في مضاجعتها، بينما قلبه ممتلىء بأخرى.
وتتطرق القاصة في “خيانة مشروعة” لنمط علاقات مختلف، فالرجل يستمر في خيانة زوجة صامتة، ينتظر منها صرخة رفض، لكنها تصمت – وهي تعلم – ويستمر مستجيبا للغواية، التي تشده نحوها، متسائلا بألم “أي امرأة أنت؟ أي أنثى تقبل لنفسها أن تكون مخدوعة ولا تتفوه بحرف؟ أي جنس من النساء أنت؟”.
في الواقع ذلك التساؤل تستخدمه ذكريات على لسان الزوج، صارخة في وجه المرأة، التي وإن ملكت أسلحة العدل، فإنها تظلم نفسها، وإن رأت كوة عدل لا تخرج منها لتثبت ذاتها، بل إنها تكتفي بزاوية العجز، التي أسكنتها فيها العادات والتقاليد.
وكما أسلفنا فإن القاصة التزمت بمبادىء الفن، تكتفي بأن تقص الحدث، متواطئة مع السرد على انحيازها التام لقضية المراة دون إعلان، ففي قصة “زلمة” تتكفل ذكريات بأن يشعر القارىء بإحساس المرأة في مراحل تهميشها منذ السنوات الأولى من عمرها. فالأخت الكبرى يسرق حلمها بمتابعة ابن الجيران، والوسطى يصادر الحائط الذي كان سيستضيف صور الفنانين، لصالح الأخ الصغير الذي سيحتل الغرفة الكبيرة، بينما ستقبع ثلاث فتيات في الغرفة الأصغر في المنزل، وهنا تتوالى مشاعر الألم والتأمل، التي غرقت فيها الاخت الصغرى، لترسم كل التفاصيل الأخرى التي ينتزعها المجتمع من الأنثى ويقدمها للرجل.
ولا يغيب الوطن عن قصص ذكريات، بل إنه يحضر في “شيء ما في ذاكرتي” و في “المفتاح”، فيتوقف الزمان عند احتلال بغداد، ويتعثر قلم التاريخ، ويتوقف عن كتابة أحداث حياة البطلة، بينما في “المفتاح” تورد القاصة ببراعة هادئة موضوع “ذاكرة اللاجىء الفلسطيني”، إذ يفضل الأبناء بعد موت الأم منح المفتاح وحاجياتها لجارهم من باب الصدقة، وهو الذي يتكفل – لجهلهم بقيمة الذاكرة – بحفظه.
(مجلة راديكال)