عن الخبز والتعليم في الأردن
د. مهند مبيضين
جو 24 :
ما زال الأردن يشهد الارتداد الشعبي ضد قرار رفع أسعار الخبز الذي اتخذته حكومة هاني الملقي أخيراً، وهو ارتفاع لم يطاول قوت الناس وحسب، وإنما شمل أسعار سلع وضرائب جديدة، كانت الحكومة وعدت أنها لن تمس الطبقة الفقيرة والمتوسطة بها. وكانت هذه الوعود مجرد خطاب يتكرّر، وقد حدث ذلك في حكومة عبد الله النسور السابقة أيضا، حين رفعت سعر أسطوانة الغاز والمشتقات النفطية الأخرى، وهو ما يؤكد عجز الحكومات الأردنية عن إيجاد حلول خلاقة غير اللجوء إلى جيب المواطن.
الأردن بلد يشهد حراكاً اجتماعياً وسياسياً كبيراً، وفيه حرية لإثارة النقاشات الغاضبة ضدّ كل إجراء حكومي، وثمّة مطالب مستمرة بوعود التنمية، والمضي في الإصلاح السياسي الذي يشعر كثيرون أنه تجمّد، وهناك من لا يرى أن شيئاً تحقق من الوعود، ويطلب توقف غول الأسعار عن التمدّد، وهو أمر يحدث في ظل ارتفاع معدلات البطالة، واتساع شريحة الفقر والفقراء. وللأسف، يشهد على كل الإجراءات مجلس نواب ضعيف في مواجهة قرارات الحكومات، وهو وصف بات عابراً للمجالس.
أعوام كثيرة، ظلّ الأردن مختبراً للقياس، كيف لدولةٍ محدودة الموارد أن تستوعب ما يجري حولها، وأن تتأثر به، وأن تعيش وتتعايش مع الحرائق السياسية وأكلافها، وأن تبقى قادرةً على المناورة في السياسة الإقليمية والتأثير؟ وربما تجاوز الحجم الجغرافي وقدرات البلد الاقتصادية إلى لعب دور سياسي أكبر من كل الجغرافيا التي وضعته دوماً في فم الغزاة والطامعين، لكنها دولة ظلّت تتمتع بالقدرة الخارقة على التكيف مع الصدمات.
جعلت الطبيعة السياسية للحكم في الأردن الملك مالك زمام الحركة السياسية، رجل واحد يحكم،
"يصعب فهم قدرة الأردنيين على التعايش مع ظروفهم حيث الغلاء والبطالة والفقر" بوجود محيط من المشاورين، والمؤسسات، يحدثُ النجاح ويحدثُ الإخفاق في السياسات، كما في أي دولة، لكن القدرة الوطنية التي راهن عليها الحكم لا يمنحها إياه مستشارون أو شركات علاقات عامة، أو معونة خارجية عبّر الملك أخيرا أنها مهما بلغت لن تحصر الأردن، أو تجبره على خيارات مُرة غير مستطابة.
وسط هذا الواقع القلق، راهن الملك على الشعب الذي مارس لعبة ذكية ومرنة في الرهان على قيمة المعرفة والتعليم. وهذا الجانب هو الذي أنقذ الناس من خيبات السياسة، أو الفشل التنموي، أو تجاهل الأشقاء لدعم بلدهم. وكانت الحركة السياسية للملك دوما لا تهتم كثيراً بما يتحقق من دعم مالي، يصب في موارد الحكومة، بل بما يُبقي الناس مهتمين بمهمة الحياة، وهي التعليم. هذا ما قاله الراحل الحسين، حين سأله ملك المغرب الراحل، الحسن الثاني: ماذا تفعل لشعبك؟ فرد الحسين: أقيم في كل قرية مدرسة، وإذ لا وجود لقرية، أُرسل معلمين من الجيش ليتتبعوا أبناء البدو ليعلموهم. فسأل الحسن الثاني: لماذا؟ إذا تعلموا سيثورون عليك؟ فلم يرق الكلام للحسين الذي عاد من زيارته ملك المغرب، وألقى خطابة الشهير الذي حمل جملة "الإنسان أغلى ما نملك". وعلى هذا الأساس، من وجود حكم مستنير، مع إدراك شعبي بأن التعليم هو خبز المستقبل للأردنيين، تكوّنت القاعدة العلمية، العريضة الممثلة اليوم بأكثر من 12 ألف أستاذ جامعي، ونحو مائة وخمسين ألف مهندس، وآلاف الأطباء والممرضين والمبرمجين والمحامين، الذين شكلوا طبقة المجتمع الوسطى، والتي كونها التعليم الذي لا تقدمه الدولة مجانا في الجامعات، مثل حال دول عربية عديدة، بل غامر أغلب الناس ببيع ما يملكون لتعليم أبنائهم.
لذلك، قطاع التعليم هو نفط الأردن الذي يجب أن يظل معافى، فالأمر الذي يُقلق الحكم هو العلم والتعلم أكثر من أي مسار آخر، فلا مشكلة إذا كان هناك فشل في السياسة، لكن مؤسسات التعليم إذا اهتزت، تمرض الدولة. ولذلك يجب العناية بأمر التعليم بشدة، وبمتابعة المدارس وأعداد الطلبة وتكوينهم العلمي، والسعي إلى كل السبل المفضية إلى التطوير.
تحت خط التعليم والتعليم أولاً، يراهن الملك عبد الله الثاني اليوم على مستقبل الشعب الأردني. لقاءات مستمرة مع معنيين بقطاع التربية والتعليم والتعليم العالي، مع خطة طموحة للموارد البشرية، ومع تقييم للقيادات المسؤولة في التعليم العالي، الأمر الذي قاد، قبل نحو أسبوعين، إلى إقالة ثلاثة رؤساء لجامعات حكومية بسبب ضعف الأداء. وكانت هذه الخطوة كافية لكي يتحسّس كل مسؤول في الأردن رأسه، وهو ما عبّر عنه الملك، بعد الإقالة الجماعية لرؤساء الجامعات، بالقول، في لقائه مع رؤساء لجان مجلس النواب: "لا نريد مسؤولين مرتجفين، ومن لا يعمل فليستقل".
فالحساب، بعد منح الفرصة في القيادة، يمكن أن يحدث تغييراً كبيراً، والبقاء لن يكتمل إلا
"هناك أحلام كبيرة، وطموح بعملية سياسية وحياة ديمقراطية ناجزة" بتقارير أداء رفيعة، تُحصّن كل مسؤول. يحدث هذا كله مع وجود وزير تعليم عال خبير، وعمل رئيسا مؤسسا، ورئيسا لأكثر من جامعة، وهناك لجنة تربية نيابية فاعلة وجدّية، لتنتج هذه الفرصة، في النهاية، إقرار قانون تعليم عال جديد، يُصلح أي خلل. ولأول مرة، وفقا للقانون الجديد، سيكون وزير التربية والتعليم نائباً لرئيس مجلس التعليم العالي، بالإضافة إلى رئيسي جامعتين، خاصة وحكومية، بحسب الأقدمية بين الجامعات، مع خبيرين من أهل الرأي، يجدد لهما سنوياً، بالإضافة إلى أستاذين بدرجة الأستاذية، ولهما سمعة علمية محترمة. وسيعطي هذا التطور الكبير في التشريع أيضا اهتماما بمسألة التعليم الجامعي الخاص وحقوق العاملين فيه.
بين إخفاق لجنة المالية في مجلس النواب في الدفاع عن الشعب أمام سياسات الرفع الحكومي للأسعار، وهو رفع غير مبرّر، هناك نجاح في لجنة التربية والتعليم والثقافة، فبالإضافة إلى إقرار قانون جديد، ودعم سياسة تقييم رؤساء الجامعات وتطبيق مخرجات التقييم، ألغت لجنة التعليم والتربية والثقافة نتائج التصنيف الأردني للجامعات الذي أعدته هيئة اعتماد مؤسسات التعليم العالي، وأعلنته الشهر الماضي، وثبت أنه أُجري وفق إجراءات غير منهجية، وكاد أن يلحق الضرر بمؤسسات التعليم العالي وسمعتها.
مع هذا كله، يصعب فهم قدرة الأردنيين على التعايش مع ظروفهم، حيث الغلاء والبطالة والفقر. ومع ذلك، لديهم شغف وعناية كبيرة وإصرار على التعليم. هناك جيل من الشباب يبحث عن حياة خارج الوطن، لا يمكن الوصول إليها إلا بتعليم نوعي ومهارات. وهناك أحلام كبيرة، وطموح بعملية سياسية وحياة ديمقراطية ناجزة، على الرغم من كل حرارة حرائق المنطقة التي قد تصيب الأردن، لكنها لا تحرقه، فينهض كل مرة بشكل أكثر صلابة. من حيث القاعدة الاجتماعية التي لا تهدّدها أزمات الإقليم، بقدر ما يهدّدها فشل سياسات التنمية وتأخر الإصلاح وغياب العدالة.