كيف نقرأ انتقاد الملك للحكومة؟
د. حسن البراري
جو 24 :
دأب جلالة الملك عبدالله الثاني في السنوات الأخيرة على توجيه سهام نقده للمسؤولين -العاملين والسابقين- في الدولة الأردنية، وهو أمر بدأنا نطلع عليه للمرة الأولى خلال مقابلة منحها للصحفي الامريكي جيفري غولدبيرغ في شهر ابريل من العام 2013، ويكشف هذا النقد اللاذع عن فجوة بين رؤية الملك "الحداثية" في غالبية الملفات وبين تطبيق من يختارهم الملك لهذه الملفات. وكأن جلالة الملك في واد والاجهزة التي تنفذ رؤيته في واد أخر ما يطرح سؤال حول جدوى وضع خطط "حداثية" إن لم يكن هناك التزام من قبل الحكومة والاجهزة المعنية بها.
بالأمس كان الملك في زيارة للجامعة الأردنية إذ التقى مع عدد منتقى من طلبة العلاقات الدولية والعلوم السياسية، وفي اللقاء عبر الملك عن استيائه من الطريقة التي تعمل بها الدولة الأردنية، وشجع الطلبة على ممارسة الضغط من الأسفل على الحكومة وعلى مجلس النواب حتى يتمكنوا من أداء مهامهم الموكولة إليهم بكل امانة وصدق واخلاص.
ويأتي حديث الملك في خضم حالة من الاحباط العامة التي تشهدها البلاد نتيجة للسياسات الرسمية التي تنتهجها حكومة هاني الملقي والتي وصلت حد التوحش في جباية المواطنين الأردنيين الذين يترنحون تحت شدة وطأة فشل الحكومة في ادارة الملف الاقتصادي. وبالفعل ظهر وكأن الملك أقرب إلى نبض الشارع وهو ينتقد الأداء الرسمي ولسان حاله يقول اسمعت لو ناديت حيا لكن لا حياة لمن تنادي.
ما من شك أن الملك محق في نقده وبخاصة فيما يتعلق بمجلس النواب، فهذا المجلس كحال سابقه خذل الشعب وهو يتماهى مع سياسات حكومية لا تقيم وزناً لأحد ولا تتعاطف مع الشعب بأي قضية، ولولا خوف الحكومة من هبة شعبية لربما ذهبت إلى حد في الجباية تعجز عنه حتى أفلام الخيال العلمي. ويبدو أن هناك تناقضا في الخطاب الرسمي، فمن ناحية يريد الملك من الناس أن يمارسوا ضغطاً من الاسفل ولكن المشكلة تكمن بتعيين شخصيات غير اصلاحية ولا تأبه إلا بقانون القوة وليس قوة القانون. فالأصل أن تُعيّن الشخصيات الاصلاحية التي يمكن أن تؤسس لحالة تفضي إلى تمكين المواطن سياسيا واقتصاديا، فالحديث عن أي رؤية اصلاحية إن لم يرافقها تطبيق يسحب من رصيد الدولة في العقل الجمعي الأردني وهي نقطة على صاحب القرار أن يتيقن لها.
لن أدافع عن مجلس النواب، فسجله في الرقابة والتشريع سيء، وتزلف عدد كبير من السادة النواب لا يحتاج إلى اثبات، غير أنني أجزم أن المجلس الحالي ومن سبقه جاء وفقا لرؤية رسمية حتى يكون أداة طيعة بيد السلطة التنفيذية، ولا يمكن فهم دورة إلا في سياق بحث السلطة عن جهة "تمثيلية" للشعب لتمرير التشريعات التي تطبخ في مطبخ آخر، فدور مجلس النواب لا يتجاوز المصادقة على قرارات سلطة تنفيذية لم ينتخبها أحد بالاردن. وعليه فإن وجود مجلس نواب قوي قادر على أداء دوره الوطني بكل اقتدار يحتاج الى ارداة سياسية لم تتوفر بعد.
حديث الملك عن الفساد في أكثر من مناسبه هو ما يحتاج أن يسمعه الاردنيون، غير أن المتابع ليعجب من عدم قدرة أو رغبة الدولة في ملاحقة الفاسدين وجلبهم للعدالة، والحق أن استراداد أموال الاردنيين من الفاسدين لم يعد ترفاً بل ضرورة تصل الى حد متطلبات الاستقرار والبقاء، فلنا أن نتخيل لو أن الدولة نجحت في محاربة الفساد وفي معالجة مسألة التهرب الضريبي وكيف كان سيؤثر ذلك ايجابا على حياة المواطن.
ربما سئم الملك مثلنا هذا الواقع السياسي المرير، لكن ماذا عن تفسير الحكومة لتوجيهات الملك بالاعتماد على الذات؟ هل هذه العبارة التي وردت في خطاب العرش تعني فرض المزيد من الضرائب على العباد وافقارهم أم أنه كان يقصد اجترار الحلول بعيدا عن جيب المواطن؟ يصدمني حديث بعض المنتفعين من الفساد بأنه ليس امام الحكومة خيار سوى ما تقوم به، هنا نختلف بقوة فهناك خيارات لكن هل تجرؤ الحكومة مجرد التفكير بها؟ هل يمكن للحكومة مثلا ممارسة دورها في تحصيل الضرائب من المتهربين؟ كيف يمكن تفسير توقيف احد الصحفيين البارزين مثل عمر المحارمة لمجرد أنه نشر مادة ضد وزير المالية تتهمه بالتهرب الضريبي؟ كيف لا يمكن للدولة أيضا ملاحقة الفاسدين وجلبهم أمام القضاء العادل؟
بعيداً عن التزلف أقول أن خطاب الملك متقدم جدا، بل يتقدم أيضا على خياراته الحكومية، فلا يمكن لك ان تحلق على ارتفاع شاهق بطائرة شراعية، وعليه فإن الرؤيا الحداثية لجلالة الملك تحتاج الانقلاب على النخب الضعيفة التي ما زالت تتحكم في مفاصل الدولة الأردنية. فمزيج بين الديمقراطية والشفافية ورجال حكم صالحين سيصنع الفارق.