نعم لحكومة ديمقراطية شعبية لا لحكومة تكنوقراط..!!
جولة المشاورات بين مؤسستي الديوان الملكي ومجلس النواب يجب أن لا تتسم بالتقليدية أو المجاملات أبداً، فالظروف والأحوال السياسية والاقتصادية الوطنية تستدعي وجود حكومة من نوع مختلف عما شاهدنا خلال السنوات العشر الماضية، ولأنه يعوّل كثيراً على الحكومة القادمة، باعتبارها، ولأول مرة ستستمر، لثلاثة أو أربعة أعوام، فإن التجريب هذه المرة سيكون ضارّاً للغاية، على الرغم مما يقوله البعض باستحالة خلق حكومة برلمانية ذات برامج حقيقية نظراً لضعف التمثيل الحزبي في مجلس النواب، وهو ما يضع على عاتق النظام السياسي مسؤولية أكبر في توجيه المؤسستين البرلمانية والديوان إلى إجادة النظر في شخص وتوليفة الحكومة.
بعد أكثر من عامين على الحراك الشعبي السلمي المطالب بالإصلاح في الأردن، ينتظر الناس بفارغ الصبر حدوث تغييرات حقيقية على الساحة الوطنية، وعلى الرغم من بعض المؤشرات غير المطَمئِنة سواء ما تعلق منها بالانتخابات الأخيرة أو ببعض التغيير في الوجوه، إلاّ أننا يجب أن لا نفقد التفاؤل بوجود إرادة الإصلاح، وإنْ كانت بعض القوى تحرك بوصلة الإصلاح وفق ما تشتهي، ومع ذلك فإن فتح نوافذ جديدة لدخول الهواء النقي الإصلاحي يعدّ واحداً من أهم المسؤوليات التي يجب أن تضطلع بها مؤسسات الدولة الرئيسة، وبخاصة مؤسسة العرش، وأنا على ثقة بأن صاحب القرار السياسي الأول سيكون حازماً في محاسبة السلطات على حدود ما تتولاه من ولاية ومسؤوليات، وبالتالي فإن التقصير الذي سيؤشّر عليها الشعب، سيكون له تبعاته وحساباته..
ولأن الواقع يشي بالكثير مما تحمله المرحلة من تحدٍ وصعوبات، فإن المسؤولية تبدو مضاعفة أضعافاً كثيرة، ليبرز السؤال الأهم: منْ هي الحكومة التي ستكون قادرة على تحمّل هذه المسؤولية الثقيلة، وما شكلها وما هي مواصفاتها..؟ وإذْ أطرح هذا السؤال فإنني لا أملك الإجابة عليه حقيقةً، لسبب بسيط هو أن الساحة تفتقر لرؤى حزبية حقيقية ذات أجندات وبرامج يمكن أن نُحمّلها مسؤولية المرحلة ونثق بما ستفعل..!
وفي كل الأحوال، فأنا أرى أن الحكومة القادمة ستُحدّد مسار ومواقف الحراك الشعبي، فإما أن تكون ذات رؤية تستوعب الحراك ومطالبه، وتقوم بفتح حوار معه بلا حدود، وإما أن تنغلق على نفسها وتواصل نهج التجاهل الذي انتهجته حكومات السنوات الثلاث الماضية في الإغفال والتجاهل و"التطنيش".. ولذا فإن المطلوب، على ما أعتقد، ليس فقط حكومة كفاءات، وإنما أيضاً حكومة سياسات وسياسيين، بدءاً من شخص الرئيس إلى أصغر وزير، تكون قادرة على إدارة الحوار مع الحراك الشعبي وفهمه واستيعابه، والتوصل إلى تفاهمات معه تضع الجميع أمام مسؤولياتهم سواء في الحراك أو في سلطات الدولة المختلفة سعياً إلى تحقيق مصالح الدولة وتعزيز منعتها وصمودها، ولا تملك ذلك إلاّ حكومة ديمقراطية سياسية شعبية كفؤة..
إن الوقت لم يعد فيه مجال للتجريب أو المجازفة، وأنا ممن يرون ضرورة أن تأخذ المشاورات وقتها فلا يكون هناك تسرّع في تشكيل الحكومة، وفي تقديري أن شخوص الحكومة القادمة بدءاً من الرئيس وكافة أعضاء فريقه الوزاري سيكون لهم دور كبير في عكس النظرة العامة للإصلاح، وفي توجيه بوصلة الحراك، من ناحية التأثير في القناعات، وزرع الثقة بأن مسيرة الإصلاح الحقيقي قد انطلقت، وأن ماكنتها بدأت تُدار بكفاءة..
يبدي الكثيرون تخوفهم من أن تنقلب الأمور وتتجاوز حدود المعقول في حال تم تشكيل حكومة هزيلة لا يثق الناس برئيسها وأشخاصها، ومن هنا تبرز أهمية التوافقات لإخراج توليفة حكومية متميزة، تمثل كل الأطياف والحراكات الشعبية والمنابر السياسية أو معظمها على الأقل، وتضم شخصيات وطنية مستقلة، من أصحاب الرؤى، المشهود لها بالنزاهة والاستقامة وتحظى بثقة الناس.. وأقترح أن لا تقتصر المشاورات على البرلمان فقط، بل أن تتسع لتشمل الحركات السياسية والفكرية من اليمين إلى اليسار، حتى تلك غير الممثلة في مجلس النواب، فما المانع أن يتم التشاور معها، وما المانع من مشاركتها في الحكومة، فإن لم ترغب من داخل صفوفها فلتُرشّح من خارج هذه الصفوف من تثق بقدراتهم وكفايتهم، وهذه في تقديري هي الطريق الأسلم لتشكيل حكومة وفاق بدرجة عالية تكون لديها القدرة والجاهزية للعمل السياسي والانفتاح على الجميع دون محاباة لأحد أو إغفال لجهة..
الفرصة لا تزال سانحة لتشكيل حكومة تمتلك مفاتيح الحوار والثقة والإصلاح، والكرة في ملعب رئيس الديوان الملكي ورئيس مجلس النواب، وعليهما أن يدركا أن أي فشل لا سمح الله ستكون عواقبه مُكلفة على الوطن ضارّة بالناس، ولتكن النظرة إلى حكومة رياضية دينامية رشيقة ذات برامج تُخطط وتنزل إلى الميدان، تعمل وتنفد وتُحاور، يحمل كل وزير فيها رؤية واثقة ومقنعة، وتكون مزيجاً من السياسيين وبعض التكنوقراط.