تصدير "العسكرة" وحفنة البترودولار.. سياسة تقوّض المصلحة الوطنيّة
تامر خرمه- تجاهل السلطة لحركة الشارع والتاريخ، لم يقف عند حدود مناهضة كلّ دعوات الانتقال إلى الدولة المدنيّة الديمقراطيّة، بل باتت "العسكرة" صناعة يصدّرها الأردن الرسمي لدول الجوار، ضارباً بالمصلحة الوطنيّة وكرامة الأردنيّين عرض الحائط.
الظاهرة "العسكرتاريّة" المتمثلة بالتجهيزات العالية التي تكلّف الدولة ما لا طاقة لها به من نفقات، لإقامة عدّة معسكرات لقوّات الدرك، والاهتمام المبالغ فيه بالمباني العسكرية والأمنيّة، تعبّر عن توجّهات السلطة وإصرارها على إعادة الأردن لمرحلة خرجت من إطار المنطق التاريخي منذ أمد، بل إن مبنى مديريّة الأمن العام يكاد أن يكون مدينة داخل المدينة التي تشهد عسكرة غير مسبوقة، في مرحلة عجزت فيها أعتى الأنظمة البوليسيّة عن مواجهة متغيّرات الواقع وحركة الشعوب.
أمّا تصدير هذه الصناعة إلى دول النفط فهو ما يستوجب القلق على مصير الدولة الأردنيّة، حيث بدأت بعض الصفحات "الرسميّة" بنشر صور قوات الدرك على مواقع التواصل الاجتماعي، في سياق التفاخر الغريب بالمنجزات العسكريّة الأردنيّة خارج الحدود.
"من هي الدولة التي أرسلت قواتها الخاصة الى السعودية للتصدي للحوثيين والبوذيين بعدما استعصى ذلك على القوات السعودية".. تقول التعليقات المنشورة على موقع "الفيسبوك"، مفاخرة بهذه "المنجزات" التي تستهدف ملاحقة "البوذيّين" في السعوديّة.. ولن نتساءل هنا عن تلك الغفلة التاريخيّة التي قرّرت فيها شعوب الشرق الأقصى الهجرة إلى بلاد الحجاز ونقل ديانتها إلى هناك ! ولكن هل تمكّن الأردن الرسمي بعد كلّ هذه "المنجزات" والخدمات التي قدّمها "للشقيقة الكبرى" من معرفة مصير المواطن الأردني خالد الناطور، الذي ترفض السلطات السعوديّة منح سفارتنا في الرياض أيّة معلومة حول ملابسات اعتقاله منذ 45 يوما ؟!
كما تفاخر بعض الجهات بإرسال القوات الأردنية إلى البحرين لقمع الثورة، مستخدمة عبارات طائفيّة غريبة عن ثقافتنا، للترويج لهذه الخطوات التي لا ناقة للأردن فيها ولا جمل !
غريب أمر المركز الأمني الذي يصرّ على الاستهتار بمشاعر الأردنيين ويرسل قوّات الدرك لقمع الثورات في دول النفط ! فتخيّل لو أن قوّات غير أردنيّة جاءت لقمع الاحتجاجات الشعبية المنادية بالإصلاح، فكيف سيكون الموقف الشعبي منها ؟ وفي ضوء هذه المقاربة يمكن لمن يفخر بمثل هذه "الإنجازات" أن يدرك بشاعة الصورة المشوّهة التي رسمها صنّاع القرار حول دور ووظيفة الأردن في المنطقة العربيّة.. أضف إلى ذلك انسياق البعض إلى خطاب طائفيّ يتغذى على العصبيّات لبثّ سمومه في المنطقة.
والأنكى من هذا أن ما تقوم به قوّات الأمن والدرك خارج الحدود لا يشوّه صورة الوطن ويسيء لمشاعر الشعب الأردني فحسب، بل إن المقابل المالي لهذا الدور لا يكاد يسدّ جزء يسيرا من العجز المتفاقم في خزينة الدولة.. هذا إذا سلّمنا بالمبرّرات البراغماتيّة التي ترى في ضرورة النقد ما يبيح المحظورات !!
الإصلاح هو كلّ ما يطالب به الشارع الأردني، والأمر لا يحتاج الكثير لإنجازه في حال توفرّت الإرادة السياسيّة لذلك، أمّا "العسكرة" التي بات الأردن يصدّرها للدول المجاورة، فلن تغيّر من واقع الأمر سوى الإساءة للمصلحة الوطنيّة العليا، وعوضاً عن محاولة استقطاب حفنة من المساعدات الماليّة التي لا تكفي لمجرّد إدارة الأزمة الاقتصاديّة، فإنّه يمكن حلّ هذه الأزمة -في حال امتلك صنّاع القرار الإرادة الكافية- عبر تغيير النهج الاقتصادي المنحاز ضد خبز وكرامة المواطنين.. أمّا في حال تمادى المغامرون بهذه السياسات، فإن "العسكرة" لن تصمد كثيراً في مواجهة ما قد تؤول إليه الأوضاع.. ولنا في التاريخ كلّ العبر.