ماذا بعد الحسم السوري؟
د. حسن البراري
جو 24 :
هناك روايتان سائدتان لحقيقة ما جرى ويجري في سوريا، فالنظام السوري وانصاره يصرون على أن الغرب ودول الخليج هي من اشعلت الثورة واستأجرت ثواراً ليخوضوا حرباً بالوكالة، وعليه فإن الأزمة برمتها هي صناعة خارجية جاءت بعد أن دخلت سوريا دائرة الاستهداف وستنتهي الحرب بطرد الوكلاء. بالمقابل هناك رواية أخرى تفيد بأن الشعب السوري انتفض على الظلم والطغيان وتردي الوضع الاقتصادي وخرج ليعبر سلمياً عن مطالبة المشروعة، غير أن النظام كان ومنذ اليوم الأول دمويا ما دفع إلى عسكرة الثورة بعد أن كانت سلمية لمدة ستة أشهر. وعليه فهي ثورة سورية شرعية على نظام مستبد تهدف إلى إعادة السلطة الى الشعب وطرد القوى الخارجية المتحالفة مع نظام بشار. بتقديري أن هناك درجة من الصحة في الروايتين.
لن ادخل في تفاصيل المشهد السوري الذي أدى إلى اندلاع شرارة الثورة التي تحولت فيما بعد إلى حرب أهلية طاحنة إذ سيكون ذلك بحثاً للمؤرخين في قادم الأيام، لكن ما يعنينا الآن هو اقتراب نظام بشار من حسم الجبهة الجنوبية بكل تعقيداتها، ومن بعدها ربما ينتقل إلى المعركة الأصعب في إدلب ثم سيتم تفحص الوجود الأمريكي في شرق الفرات. لا يخفى على أي متابع أنه وبالرغم من التضليل الإعلامي الذي يستخدم من قبل طرفي الازمة إلا أن بقاء نظام الأسد بات يحظى بقبول دولي ولو على مضض، والقوى التي وقفت ضد بشار الأسد عليها الآن أن تدير خسارتها للمعركة بشكل يضمن لها الحد الأدنى من الحفاظ على مصالحها. وتتمثل العقبة الكبرى التي بدأت تخلط أوراق الجميع بما فيهم روسيا بالوجود الإيراني في سوريا الذي حقق لإيران مكاسب كبيرة على خصومها الإقليميين، غير أن وجودها سيتحول إلى عبئ كبير على نظام بشار إن أراد إعادة اعمار سوريا وإعادة تأهيل نفسه دوليا.
الموقفان الأمريكي والإسرائيلي
على عكس الرئيس أوباما الذي كان يحاول تهذيب سلوك إيران انسجاما مع رؤيته حول التوازن الطائفي في الاقليم التي استلزمت ما يسمى بالتمكين الشيعي والتغاضي عن سلوك إيران السلبي، فإن الرئيس ترامب أقل تسامحا مع سلوك إيران في سوريا على وجه التحديد. وبالفعل تمكنت القوات الأميركية من منع المليشيات المدعومة من إيران من أن تحصل على موطئ قدم على الفرات، ولعبت قاعدة التنف دورا كبيرا في هذا الأمر.
وعلى نحو لافت، لا تبدي الولايات المتحدة اهتماما بمسألة رحيل أو بقاء الأسد، فمصالحها في سوريا واضحة تتمثل في اخراج إيران، وقد أدى انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي والحملة الإعلامية التي تشنها إدارة ترامب لشيطنة إيران إلى دق ناقوس الخطر في موسكو، فالأخيرة وإن كانت متحالفة تكتيكيا مع إيران إلا أنها تعرف جيدا أن واشنطن تستطيع افساد الانجازات الروسية في سوريا، كما تدرك موسكو أن بإمكان إسرائيل أيضا خلط الأوراق بافتعال مواجهة مفتوحة مع إيران في سوريا. والحق أن تخلي الولايات المتحدة عن الجبهة الجنوبية جاء بعد أن توصل نتنياهو مع بوتين إلى اتفاق (نشرت تفاصيله في صحيفة الواشنطن بوست) بشأن المليشيات الشيعية التي تقاتل جنبا إلى جنب مع قوات بشار الأسد.
سعى نتنياهو إلى الحصول على مقايضة (tradeoff) تتمثل بعدم معارضته انهاء قوات بشار الأسد لملف الجبهة الجنوبية مقابل تعهد موسكو بإبعاد المليشيات الشيعية مسافة أربعين كيلومترا عن الجولان، وبالفعل قطع بوتين تعهدا يفيد ذلك وعليه حصل النظام السوري على ضوء أخضر من تل أبيب ومن واشنطن للبدء بمعركة الجنوب. وفي هذا السياق كتب الباحث والمحلل الإسرائيلي المقرب من دوائر صنع القرار في تل أبيب تسفي بارعيل مقالا في هآرتس يتحدث فيه عن كيف تحول الأسد إلى "حليف" لإسرائيل. ويتحدث الكاتب على تفاصيل تحول الموقف الإسرائيل إزاء بشار ونظامه. فمشكلة إسرائيل ليس مع الأسد لأنه كان وفياً لتركة والده في الحفاظ على هدوء جبهة الجولان وانما مع إيران التي تحاول أن تحصل على وجود دائم في سوريا يمكن لها أن تهدد من خلاله الأمن الإسرائيلي.
إيران التي استثمرت ما يقارب من ستة مليارات دولار سنويا في الأزمة لا تريد أن تخرج خالية الوفاض أيضا، وهناك شكوك تحوم حول قدرة موسكو على ضبط تصرفات إيران، وكانت الضربات الإسرائيلية الموجعة للمواقع الإيرانية وعجز إيران عن الرد مفيدة لبوتين لممارسة الضغط على طهران. غير أن المشكلة في ملف جنوب سوريا شائكة، فهناك روايات تتحدث عن اندماج مليشيات إيرانية في وحدات الجيش السوري كنوع من التضليل والتحايل. وهناك رصد لتحركات قامت بها فرقة الرضوان – قوات النخبة – التابعة لحزب الله في الجنوب السوري منذ مطلع شهر حزيران، وكانت من المقرر أن تكون هذه القوات رأس حربة لهجوم سوري قبل عام لولا تمكن الأردن وروسيا وامريكا من التوصل إلى اتفاقية خفض التصعيد. ولا يمكن تجاهل التورط الإيراني في الجنوب السوري وتواجد مليشيات في منطقة دير العدس في القنيطرة، ناهيك عن النشاط المكثف للواء الإمام المهدي التابع لحزب الله. كل ذلك من شأنه أن يزيد من تعقيد الجهود الرامية إلى التخلص من إيران ونفوذها.
وبعيداً عن صعوبة التحقق من مشاركة هذه المليشيات وإمكانية دمجها في الوحدات التابعة لقوات بشار فإن سجل روسيا في الحفاظ على تعهداتها كان وما زال سيئا وفي بعض الأحيان أظهرت موسكو عجزاً في التأثير على المليشيات. ويتذكر الجميع كيف فشلت روسيا قبل شهر من اقناع قوات حزب الله في منطقة القصير على الخروج منها، وقد رافق الجنود الروس الفرقة الحادية عشر التابعة للجيش السوري إلى القصير لاستلامها غير أن قوات حزب الله رفضت الانصياع. وبالفعل عاد الروس والسوريين من المنطقة من حيث أتوا، وقدم ذلك ربما دليلا واضحا على عجز روسيا على دفع وكلاء إيران إلى الامتثال مع الموقف الروسي.
إسرائيل وإيران
لم تمانع إسرائيل التدخل الإيراني منذ البداية، فطالما بقيت الجهود الإيرانية منصبة على تقوية نظام بشار ومنعه من السقوط فالقادة في إسرائيل لا يشعرون بأي تهديد، ففي البداية لم ترى إسرائيل بالأزمة السورية تهديدا لها، وعلى العكس من ذلك فكانت ترى بأنها أزمة تستنزف خصومها. ورسمت إسرائيل خطوطا حمراء منحت نفسها حق توجيه ضربات في أي مكان يتم منه نقل أسلحة كاسرة للتوازن إلى جنوب لبنان. وكانت هذه المعادلة مريحة بالنسبة للجانب الإسرائيلي.
غير أن التغير في الموقف الإسرائيلي جاء بعد أن تبين لإسرائيل بأن النظام السوري في طريقه إلى تحقيق النصر النهائي في المعركة مع خصومه وأن إيران لن تخرج من سوريا بل ستعزز وجودها عن طريق انشاء قواعد دائمة وحتى مصانع للأسلحة. وهكذا لعب الهدف الاستراتيجي لطهران دورا في احداث تغيير في قواعد اللعبة من وجهة نظر تل أبيب. وعندما أخفقت إسرائيل في ادخال بند على اتفاق خفض التصعيد يقضي بإبعاد المليشيات التابعة لإيران مسافة أربعين كيلومترا شرق هضبة الجولان بدأت إسرائيل بإشعال الجبهة من خلال استهداف قوات بشار والقوات الايرانية في سوريا.
باختصار، سينهي نظام بشار ملف الجنوب على تعقيداته، وستسعى روسيا للتوصل على اتفاق عريض مع أمريكا تسلم فيه أمريكا سوريا كاملة للنظام ولروسيا شريطة ابعاد إيران كليا من سوريا. فهناك توافق دولي حول هذه النقطة على وجه التحديد. وبتقديري هذه هو التحدي الأكبر بعد حسم ملف الجنوب، فاتفاق أمريكي روسي بهذا الشأن سيحقق للجميع مصالحه باستثناء إيران التي ستشعر بغبن بعد أن استثمرت أكثر من أربعين مليار دولار في الأزمة. فهذه الأزمة التي قدمت لإيران مكاسب جيوسياسية كبيرة جدا ربما ستشهد انحسارا لهذه المكاسب ما يؤثر كثيرا على نفوذها حتى في العراق.