الدولة القومية في إسرائيل وما يجري في الأردن
د. حسن البراري
جو 24 :
لا يحتاج المرء منا سوى أن يلقي نظرةً عاجلةً على المشهد السياسي المتردي في بلادنا ليرى بوضوح حقيقة أن النخب السياسية الحاكمة التي أدمنت الفشل هي من يتم تدويرها بمواقع صنع القرار، وهي نخب فاشلة بالتجربة ارتبطت بعدد محصور من الكتبة الذين ينسجون الأساطير حول "عبقرية" هذه النخب ومشاريعهم. مؤخرا بدا وكأن توجيه النقد المكفول بالدستور أو كشف الطابق أمراً لا يمكن لهذه الحفنة من الكتبة أن تتعايش معه وإلا كيف يمكن لها أن تضمن تدفق الأعطيات والمنافع والمواقع هنا وهناك. وكأن المطلوب أن يعلو جدار الصمت من جديد، فيخرج علينا من امتهن الجلوس في بلاط سلاطين الفشل وتقبل شتى أنواع الهدايا مطالبا بإخراسنا بذرائع ولغة "حداثية" ملمسها كنعومة الأفعى، لكنها سامة! ولم يعد الأمر يخفى علينا كمراقبين سئمنا من هذه العلاقة التضامنية بين طرفي الخيبة.
وحتى لا يكون النقد خروجاً على النص لا بد من التوقف عند الخط الناظم لمواقف هذه النخب والأقلام التي برز نجمها برعاية رسمية والتي لا تريد لنا إلا أن نرى ما ترى. وهنا اطرح فرضية أن ما تهدف إليه هذه النخب والأقلام المأجورة هو تليين الساحة الداخلية توطئة للتعاطي مع مخرجات ما يجري غرب النهر، فلا بأس أن يكون الأردن وطناً بديلاً أو أن يلعب دوراً غرب النهر بالتناغم مع مخططات إسرائيل لاستكمال آخر حلقات المخطط الصهيوني الكولونيالي الاحلالي.
المطلوب في هذه الحالة تطويع الجبهة الداخلية في الأردن للتعاطي مع المشروع الصهيوني، وأسندت هذه المهمة إلى عدد من الشخصيات اليهودية الأمريكية ومعهد كارنيغي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وكان البحث جاريا عما سمي آنذاك بالإسلام الليبرالي أو بالإسلام المعتدل وعن بعض الكتاب أو الباحثين للتعاون مع هذا المشروع، وبالفعل بدأ معهد كارنيغي بحوارات مع الإخوان المسلمين على اعتبار أنهم يمثلون الطبقة الوسطى بالأردن والذي يمكن إيجاد مقايضات معهم تفضي في نهاية الأمر إلى تليين الجبهة الداخلية. وتجلى المشهد بأبشع صوره عندما انضوى عدد قليل من الباحثين تحت هذه اليافطة متذرعين بضرورة الاشتباك مع الآخر بغية إيصال وجهة النظر الأردنية والتأثير بالآخر. لا مجال هنا للتحدث كيف قام هؤلاء الباحثين بتأييد احتلال الولايات المتحدة للعراق وتدميره بحجة أن الديمقراطية لن تأتي إلا من الخارج. وثائق ويكيليكس تكشف موقف العديد منهم وهو أمر يندى له الجبين وسأتحدث عنه في مقال قادم.
ازدادت حدة الحوارات التي أجرتها مؤسسة كارنيغي وتطوع عدد من الكتاب للقيام بدور الكمبرادور والتوسط لمنح حوار الإخوان المسلمين مع كارنيغي شرعية، وكان هدف كارنيغي ومن يموله في الولايات المتحدة التوقف على مدى استعداد ما سمي بالإسلام المعتدل بقبول أفكار تبدو في ظاهرها حداثية لكنها في الجوهر هي ترجمة عملية لمقولات الوطن البديل. وساعد في ذلك عدد من فلول الأكاديميا الذين وجدوا في ذلك فرصة للإثراء من خلال تلقي التمويل الأجنبي لدراسات مسحية وصلت حد الذهاب الى المخيمات للتوقف عند ميولها للتأكيد على مقولة أن اللاجئين لا يريدون العودة إلى مسقط رأسهم في فلسطين. طبعا، لا أفترض أن الإسلاميين في الأردن كانوا يؤيدون الأفكار الأمريكية مع أن موقفهم من فك الارتباط لا يمكن فهمه في السياق الوطني وهو بذلك يثير العديد من الشكوك.
لم يخطر على بال الأمريكان بأن الرهان على هذه القوى وعلى هؤلاء الباحثين الخائرة قواهم كان رهانا فاشلا بامتياز، ولما كان العائد من استثمار هذه المؤسسات بالإسلاميين متواضعا كان لا بد من طرح أفكار من قبيل الدولة المدنية -وكأننا نعيش في كنف الدولة الإسلامية- والعقد الاجتماعي الذي ما هو الا اسم حركي أو تعبر ملطف (euphemism) لتهيئة الساحة الأردنية للتعاطي مع اجندات لا تخدم الأردن الذي نعرفه. وتنطحت بعض أقلام المرتبطة بشكل عضوي مع منظري هذه الأفكار لكل من يختلف معها، فهم يريدون اعفاءنا من عناء التفكير لأنهم "يعرفون" ما نحتاجه في قادم الأيام، ويتحدثون عن عقد اجتماعي دون فهم نظري للسياق التاريخي لفكرة العقد الاجتماعي. ومن دون الدخول في تفاصل نظرية العقد الاجتماعي عند كبار منظريها من هوبز ولوك وجان جاك روسو، فإن ما يطرح عن العقد الاجتماعي في الأردن في ظل وجود دستور عصري يأتي كسحابة دخان تخفي خلفها اجندات أخرى بات يعرفها القاصي والداني.
لن أفترض سوء النية ولن اربط بين ما جرى من مكارثية إعلامية -قادتها مجموعة معينة بمقالات تشبه ما يكتب بصحافة التابلويد- لكل من يختلف مع حكومة الرزاز وبين مصادقة الكنيست الإسرائيلي على قانون الدولة القومية، لكن في النهاية تستفيد إسرائيل من ذلك. فلم يطرح أحد حل الدولتين بالشكل الذي كنا نعرفه في السابق، والحق أن فرصة إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة ومتواصلة جغرافيا قد تبخرت على نيران الاستيطان الإسرائيلي وانحياز ترامب بالكامل لوجهة نظر اليمين الإسرائيلي المتطرف. وإسرائيل في هذا السياق تتصرف وتشرع لتضمن يهودية الدولة والتأسيس لترانفسير ناعم للفلسطينيين سواء من يقيم منهم داخل الخط الأخضر أو في حدود عام 1967.
وتبدو هذه المجموعة من نخب وكتاب مندفعة بمشروعها "الحداثي" اندفاعة غورباتشوف في مهمته المستحيلة بشقيها سواء المتعلق بالبروسترويكا والغلاسنوست وهي تحاول دفع الأردن إلى مخاض عسير لا يمكن لأحد أن يعلم علم اليقين أي مولود سيأتي به الطلق.