بني هاني يكتب عن: اقتصاديات المستحيلات والترقيع
جو 24 :
كتب د. عبدالرزاق بني هاني -
هناك، في كل العلوم التي علمها وألهمها الله سبحانه وتعالى للبشر، عددٌ من البدهيات التي تذكّر المهتم بالأمر، على مدار الزمن، سواء كان مهتماً عابراً أو مهتماً عالماً وباحثاً، أو مهتماً مسؤولاً، بأن لكل علم ٍ أصوله وقواعده وبدهياته.
الاقتصاد والاجتماع والإدارة العامة علوم لا تختلف عن بقية العلوم ... تستند إلى قواعد وأسس فكرية وفلسفية متينة ... من نسيها وقع في المحظور ...
تقول أول البدهيات بأن التخبط لا يُنتجُ مجتمعاً سليماً ولا اقتصاداً قوياً ولا إدارة صالحة ... فقد تنجح الفهلوة والكذب في تشتيت انتباه المجتمع لفترة ... لكن الناس سيدركوا بعد مدة ليست طويلة بأنهم مخدوعون ... فيبدأوا باكتشاف الواقع المتردي ثم التذمر ثم السخط والتخريب ... ما لاحظته عبر السنوات الأربعين الماضية أن الإدارة العامة الأردنية كانت تتخبط في سياساتها الإدارية والاقتصادية والاجتماعية حتى وصلت إلى طريق ٍ وعر ٍ ثم مسدود الآفاق ... وكي ينفتح الطريق أمامها لابد أن تدفع ثمناً باهظاً يأتي على شكل خراب اجتماعي وتدهور إداري وارتهان - سياسي ...
اقتصاديات الترقيع تعمل كما يعمل الخياط على ثوب بال ٍ كثير الثقوب ... يرقع ثقباً ثم ينتقل إلى ثقب آخر ... لكنه يتفاجأ بأن الثقب الأول الذي رقعه قد انفتح مرة أخرى واتسع الثقب ... وهكذا ... ومع مرور الزمن يبلى الثوب فلا يعود صالحاً البتة ... فلابد والحال كذلك أن يرمي الثوب في القمامة ويشتري ثوباً جديداً .... لكن هل يعقل أن نرمي اقتصاداً أو مجتمعاً بأكمله ؟؟؟
كيف يحصل ذلك ؟
هذا السؤال من أهم وأخطر الأسئلة التي تحتاج إلى إجابة وافية ... توضع بين يدي ولي الأمر ... وهو الملك في هذه الحالة ...
تتشكل الإجابة الكلية من عدة إجابات فرعية، مدعمة ببعض الأمثلة الحية، على النحو التالي:
أولاً) دخلت قبل أسبوع على طلبتي، وهم من السنة الرابعة، أي سنة التخرج، في محاضرة حول الاقتصاد المؤسسي. ونظراً إلى أهمية الموضوع، الذي قال عنه الطلبة بأنهم يخوضون في حيثياته لأول مرة في حياتهم الأكاديمية ... كنت مضطراً إلى ضرب أمثلة متعددة عن الاقتصاد المؤسسي وماهية المؤسسات وكيفية تشكلها، وخطورة عملها في المجتمع ... والمؤسسات حسب التعريف الاقتصادي ليست البُنى المادية ... بل هي مجموعة العادات والأعراف والتقاليد التي تحكم علاقات الأفراد والجماعات في المجتمع ... والمؤسسات أيضاً هي الدستور والقوانين والأنظمة والتعليمات والقرارات التي تضبط إيقاعات المجتمع وطريقة حكم الدولة... فالأفراد والجماعات مؤسسات تمشي على الأرض ... والدستور وقوانينه والأنظمة والقرارات الصادرة بموجب كل ذلك هي مؤسسات مكتوبة...
من أجل ترسيخ مفهوم المؤسسات في أذهان الطلبة طرحت عليهم الحالة التالية : لنفترض بأني ربُ عمل وأنتم عاملون عندي ... أبرمت عقوداً معكم لا تحصلون بواسطتها إلا على نصف ما تستحقون من أجور ... ولا يمكن لأحدكم أن يحصل على إجازة سنوية إلا ليوم واحد، وهو يوم جمعة ... وليست هناك إجازات مرضية ... ومن يناقشني بأي شأن سأطرده من العمل ...
سؤالي إليكم: ماهو شعوركم نحو العمل معي ؟ وبخاصةٍ إذا اضطررتم للعمل ! ... أجيبوا على السؤال دون أدنى وجلٍ أو خوف أو خجل ... أريدكم أن تتعاملوا معي من غير إحراج من أي نوع !!!
كانت الإجابات بالإجماع بأن العمل معك فيه ظلم شديد ... ولو تمكنا من إشعال النار بك وبممتلكاتك لما وفرّنا ذلك ...
لاحظوا معي بأن الإجابة كانت بالإجماع ... لم يكن هناك متحفظاً ...
انتقلت إلى سؤالي الثاني: ماذا لو كانت الحالة الافتراضية المُشار إليها متعلقة بالعمل في الحكومة، كأن نقول وزارة التربية والتعليم أو الخارجية أو في الأمن العام ... فكانت الإجابة كاسحة : سنقوم بالشيء ذاته ... ما يعني بأن البشر يبقوا بشراً تحت كل الظروف ... إذا شعروا بالظلم فإنهم يتمردوا ويحرقوا وينهبوا ...ولن تمنعهم شعارات الإنتماء والوطنية الكاذبة التي يروجها أصحاب المصالح المنتفعون من الأمر الواقع ... ما يعني في نهاية المطاف بأن المؤسسات ضرورة سابقة على الوطن والوطنية ... فالإدعاء بالانتساب إلى الرسول لا يبني وطناً ... !!!
ثانياً) تقول البدهية الثانية أن منهاج العمل الذي لم يفلح في حل مشاكل البشر، في مرتين أو أكثر، لن يُفلح في المرات التالية ... ومن لا يرى الشمس في وضح النهار فهو أعمى بالضرورة أو أنه يتغابى ... أو أنه خائن ....
أقصد بذلك أن برامج التخريب الاقتصادي التي يضعها الصندوق والبنك الدوليين ليست إلا وصفات إلى مزيد من التردي والتبعية والارتهان لهاتين المؤسستين ... فعندنا أطلقت هاتان المؤسستان كان الهدف المعلن من وجودهما إعادة إعمار الاقتصاد العالمي ومساعدة الدول في ضبط موازين مدفوعاتها ... لكن الهدف الباطن يكمن في تكريس التبعية للنظام الأنجلوسكسوني ... السياسي والاقتصادي والاجتماعي والاستراتيجي والبيئي ... أي النظام الذي صنعته اليهودية العالمية ... ونتائج برامج هاتين المؤسستين واضحة لمن يرى ويتدبر في كل دول العالم ...
فكلما خرجنا من مأزق دخلنا في آخر ... وكلما رقع الخياط رتقاً اتسع الرتق وأصبح عسيراً على الراتق أن يكمل المشوار ... وهكذا هو حال الحكومات التي تعاملت مع الصندوق والبنك الدوليين ... ولم يبق أي خيار أمام حكومتنا إلا أن تحرق نصف الشعب وتقتل ربعه وتسجن ثمنه وهكذا من أجل أن يتنعم أبناء البغاء واللصوص وأبناء الحرام بموارد البلاد ... وهي حالة واضحة على مستوى العالم النامي كله ... لا استثناء على ذلك ...
ثالثاً) تقول البدهية الثالثة بأن القيادة هي القدوة ... فإذا شاهد الطلبة أستاذهم يحب الجد والاجتهاد فإنهم يجدوا ويجتهدوا ... وإن شاهدوه يرتع ... رتعوا مثله ... والبشر مجبولون على الطمع وحب الأكثر والعين الفارغة ... فإذا رأوْا زعيمهم يتلذذ بالحياة فإنهم سيحاولوا التلذذ مثله ... وإن لم يستطيعوا ذلك تلذذوا بآلام بعضهم بعضاً إن لم يستطيعوا حرق البلاد على أصحابها ..