أمجد ناصر: الغريب في أجنحة الهزائم
بالقلق تارة، وبالذاكرة المثخنة بالرعوية والبداوة ووصايا الأم ونبوءتها وحدسها بانعدام الراحة تارة، وفي تراكيب الهزيمة التي شهدها لفلسطين القضية تارة أخرى، أو في حالة الحصار البيروتية التي أضحت اليوم مجرد واقعة في سيرة النضاليين العرب، كان حضور أمجد ناصر (يحيى النعيمي) المولود في مدينة المفرق عام 1955، ممتداً في الكتابة الفطنة والكتابة المثقفة شعراً ونثراً، عبر عواصم الاغتراب والعزلة التي اختارها عنواناً لذات زمن شعري في ديوانه «رعاة العزلة» الصادر في عمان عام 1986م.
هذا شاعر يقيم بين فطنة البداوة، وفتنة الزمن، الذي شهده زمن مقاومة وزمن حصار وزمن سلام وزمن التحولات، وزمن خيبات الرفاق، وزمن المرض الذي هو مقاومة أخرى. وهو شاعر مُغيّر، وصفه محمود درويش بأنه «أحد أبرز الذين أسسوا لشرعية جمالية قصيدة النثر العربية»، التي كان محمد الماغوط أبرز روادها وممتهنيها.
لم يكتف ناصر بالهجرة، والخروج من موطنه حيث المثلث القلق جغرافيا، في «المفرق» المدينة، والمفرق الفاصل بين البداوة والفلاحة وبين البادية والصحراء، وبين عمان غرباً وبغداد أو دمشق شرقاً وشمالاً. فكان له أن يوغل بالابتعاد عن هذا التاريخ وتلك الجغرافيا اللعينة التي ألحت عليها ريشة الانتداب وسايكس بيكو تلويناً كي تكون أوطاناً، لا وطناً موحداً، فالتجأ الفتى المتمرد مبكراً إلى مكون ما قبل الوصاية الغربية واستقرّ فيه، وهو «لبنان الكبير» الذي صنع تعدديته وشخصيته وكيانيته بتمايز فريد عن الوطن الأم سورية، منذ زمن بشير بيك الشهابي وارث السلطة المعنية التي أسسها آل معن.
لكن قدر أمجد ناصر وهو في لبنان الكبير، أن تصبح «بيروت صغيرة بحجم راحة اليد» وهذا هو عنوان سرديته عن بيروت الحصار والاحتلال والضياع والخروج (الدار الأهلية عمان، 2013). فمن بيروت الفكر والتقدمية، كان الانتقال إلى بيروت أخرى تحتل، وتحاصر، وتصبح غربية وشرقية، كل ذلك حدث في زمن لاحق على بدء قطار السلام العربي في كامب ديفد اللعينة العام 1978، ولا شك هي لحظة لافتة من القرن العشرين، أن يدخل العدو عاصمة عربية خارج فلسطين فيقسم المدينة ويخرج «التاريخ العبء» كما قال قسطنطين زريق من بطن الطائفية ويترك لعنته في الانقسام الوطني حتى اليوم.
تجيء يوميات الحصار والاحتلال عند أمجد ناصر بلغة مليئة بالدفء رغم القصف والحصار والموت، تشهد على حقبة مهمة سبقه كثيرون في تدوينها ولحق به آخرون، لكنه بلا مواربة، دون يوميات واقعة كبيرة تركت أثرها في النثر والأدب العربي أكثر مما تركته في كتابة التاريخ العلمي.
وكأن بيروت التي هي «بحجم راحة اليد»، كانت بداية لكتابة نثرية جديدة، وكلّ كتابة عند أمجد هي كذلك كما يقول: «هي نهاية ما، وبداية غامضة إنها قطع واستئناف في الوقت نفسه..»(حوار منشور في مجلة أقلام جديدة، ع 22، 2008).
كتاب أمجد ناصر «بيروت صغيرة» واحد من عشرات النصوص أو الكتب التي صدرت عن بيروت الاجتياح وبيروت الحصار، تلك تركة بيروتية قاسمه فيها كل من رشاد أبو شاور وفايز رشيد وسعدي يوسف، وفواز طرابلسي ومحمود درويش، وطاهر عدوان ومعين الطاهر وشفيق الغبرا ويوميات غسان تويني وآخرين، ممن حاولوا كتابة زمنهم مع المدينة، لا تاريخ الواقعة الذي يعتبر من عمل المؤرخ.
يحضر العام 1982 في المدى الطويل للحرب والحصار، سلماً أو عنفاً، ويحضر الفلسطينيون والعرب ومنهم امجد ناصر في هذا التاريخ اللبناني المفتوح بصفة واحدة، سيكون أمجد كما جيله مناضلاً، وتنويرياً، ومثقفاً فاعلاً متنكرا لكل انتماء تقليدي، وقد يكون للصفات المكتسبة من زمن الثورة وانحرافاتها صفات أخرى، ستكون دامغة في الوجدان، وتلح عليه حين يزور بيروت بعد زمن ويعود لمقهى آخر ويجد نفسع غريبا. فللثورات والحروب قسوتها على الذات أيضاً، هذه الحرب التي علّمت جيلاً من الثوار العرب، كانت عنوان بحث طويل ورصين للمؤرخ اللبناني القدير عبدالروف سنو بعنوان «حرب لبنان 1975-1990م، تفكك الدولة وتصدع المجتمع» (الدار العربية للعلوم 2008) وهو العمل الأهم تاريخياً.
يخرج أمجد ناصر من بيروت، خروجاً بطعم الهزيمة، ومعه جيل من الذين رأوا الانكسار يبدأ بعد سلام كامب ديفد، فيذهب الشاعر المناضل إلى جهة اخرى، وتبدأ لاحقاً قصيدة النثر جزءا من مهماته، يطوع ما يريد لها من ثقافته الواسعة، ثم يرمي قلمه في نهر الرواية فيصيب شعريته بالانحناء للنثر الذي غالب الراوي في روايته «هنا الوردة» (دار الآداب، 2016).
لكن صفته المركزية تظل تلازمه كشاعر منذ مديح لمقهى آخر (1978) ثم «منذ جلعاد كان يصعد الجبل» (1981)،»رعاة العزلة» (1986)، «وصول الغرباء» (1990)، «سُرَّ من رآكِ»(1994)، «مرتقى الأنفاس»(1997)، «حياة كسرد متقطّع» (2004)، «كلّما رأى علامة» (2005)، «فرصة ثانية!» (2010) وفي كل التجربة ظلّ المقهى يحضر معه في ثيماته المختلفة، لا بل نجده يأخذ على الحالة البحثية في الأردن قلة اعتنائها في دراسة القهوة وتقاليدها وموروثها (حوار مع امجد ناصر، مجلة اقلام جديدة، العدد 22،2008) وهو يؤكد حضور المقهى في ثقافته وأعماله، قائلاً:» كان المقهى بالنسبة لي، ومجموعة من أصدقاء البدايات في الأردن، حاضراً في حياتنا اليومية. قد لا يكون تسلّل، كثيراً، إلينا كلنا، لكنه كان موجوداً في خلفية الكتابة وأجوائها...».
لمقهى الأردن وسط البلد في عمان حضور خاص، هناك كون أمجد مجموعته، التي التزمت المقهى بصفات خارجة عن وصمة المجتمع لمرتادي المقاهي، لكنه في مدنه الأخرى بيروت ولندن وفي قبرص قد لا يجد ذات المجموعة ولا التجربة التي جعلها في المقهى الآخر، حيث القلق هناك يبدو واضحا في اعتبار المقهى عالماً فسيحاً مفتوحاً على المنفى والهجرة والنضال والحب والهزيمة.
الهزيمة التي لا تحضر بشكل مباشر بقدر ما يعبر عن زمنها العربي القاسي فيختار لها عنواناً لديوانه «مرتقى الأنفاس» (بيروت 1997) ويتوقف عن شخصية ابي عبدالله الصغير مودعاً غرناطه التاريخ والحب، قائلاً:
أنا أبو عبد الله المكنى بالصغير
بكر أمي
ولدت تحت لبدة الأسد
رايتي حمراء
ودليلي نهار يميل
في هذه التجربة الشعربية، وفي سابقاتها، يستمر امجد ناصر في صناعة مساحته الشعرية، التي تؤثثها الأنوثة كثيراً، فهو عنوان للتمرد والخروج والتدريجي من عتمة الليل، إلى نهار مليء بالراحة المفقودة والقلق ورائحة البنادق والبحث عن مرفأ جديد لكلماته، هو النهار المحمل بقلق المبدع الذي سيسرق منه الراحة، وذلك ما بشرته به أمه مبكراً.
الدستور