وجع أسنان
في فمي ضرس مسوس، وكان يحتال على تعذيبي فيسكن متربصا نهارا ويستقيظ مضطربا بالاوجاع في هدوء الليل عندما يكون أطباء الأسنان نائمين و الصيدليات مقفلة .
نفذ صبري و اقلع حالي من شدة الالم، ذهبت الى أحد الأطباء وقلت له _انزع ضرسا خبيثا يحرمني لذة الرقاد و يحول سكينة ليالي الى الانين والضجيج .
فهز الطبيب رأسه قائلا : من الغباوة أن تستأصل الضرس أذا كان ممكنا تطبيبه .
ثم أخذ يحفر جوانب الضرس وينظف زواياه ويتفنن بتطهيره من العلة والخراب . ولما وثق أنه صار ضرسا خاليا من السوس حشا ثقوبه بفضة خالصة ثم قال -مفاخرا لقد اصبح ضرسك العليل أشد وأصلب من أضراسك الصحيحة .
صدقت ما قال وملأت حفنته دنانير وذهبت فرحا .
ولكن لم تمر بضعة أيام حتى عاد الضرس المشؤوم الى تعذيبي و إبدال أنغام روحي بحشرجة وعويل الهاوية.
فذهبت إلى طبيب آخر وقلت له بصوت يعانقه الحزم -ألا فاخلعه ضرسا مذهبا شريرا، ولا تعترض ‹فمن يأكل العصا ليس كمن يعدها ‹.
نزع الطبيب الضرس و كانت ساعة مليئة بالاوجاع ولكنها ساعة مباركة بالخلاص .
وقد قال لي الطبيب بعد أن استأصل الضرس وتفحصه جيدا -لقد فعلت حسنا، فالعلة قد تحكمت بأصول ضرسك هذا حتى لم يبقى رجاء
بشفائه .
نمت مرتاحا تلك الليلة، ولازال أشعر بالراحة، الحمد لله للخلع والاستئصال .
في فم البشر ‹الناس› أضراس مسوسة وقد نخرتها العلة حتى بلغت عظم الفك، غير أنها لا تستأصل لترتاح من أوجاعها بل تكتفي بتمريضها وتنظيف خارجها وتلميعها وملء ثقوبها بالذهب اللماع .
وما أكثر الاطباء الذين يداوون أضراس الانسانية بالطلاء الجميل والمواد البراقة، وما أكثر المرضى يستسلمون لمشيئة أولئك الاطباء المصلحين فيتوجعون ويسقمون ثم يموتون بعلتهم مخدوعين .
والأمة التي تعتل ثم تموت ولا تبعث ثانية لتظهر للملأ أسباب الامراض المعنوية وماهية الداء الاجتماعي التي تؤول بالامم للانقراض والعدم والاندثار .
الاردن لربما من أكثر الاوطان مبلية بأضراس مسوسة ومعطوبة سوداء قذرة رائحتها كريهة، وقد حاول الاطباء تطهيرها وحشوها بالمينا وإلباس خارجها رقوق ذهب ولكنها لا تشفى ولن تشفى بغير الاستئصال .
والبلد الذي تكون أضراسه معتلة تكون معدتها ضعيفة، وكم بلد على الخريطة ذهب شهيدا لعسر الهضم .
ومن شاء أن يرى أضراس الاردن المسوسة فليذهب الى منازل حيث التصنع والكلفة و الرياء والخداع والنفاق . ولبيوت الفقراء والمهمشين حيث الخوف.
ومن بعد الى اصحاب الانامل الناعمة والالات الدقيقة والرقيقة والمساحيق المخدرة والخادعة، وما يصرفون من أيام لملء ثقوب الأضراس المسموسة والمعطوبة وتطهير زواياها المعتلة .
وأذا ما أردت محادثتهم، فهم النبهاء والبلغاء والفصحاء .ففي حديثهم نغمة أسمى من أناشيد حجر الرحى وأنبل اغاني الضفادع في ليالي تموز .
ولكن إذا ما قيل لهم أن الاردنيين يقضمون قوت الحياة بأضراس مسوسة وأن كل لقمة تؤكل تمتزج بلعاب مسمم وانه قد نتج عن ذلك مرض في امعائها .
وإذا قيل لهم عن الاستئصال . يضحكون منه لأنه لم يدرس طب الأسنان الشريف.