سيلفي!
«السليفي» ضرب من نرجسية مقطوعة النظير، فلم يعد ‹الفيس بوك› سجنا كبير لجماعة محصور وجودها على صفحة ما، بل سجن أصغر بالمطلق للفرد في صوره، وسردها بأنانية مفرطة ومشبعة بالنرجسية. لربما أن ذلك يعبر باختصار عن أزمة وجودية بلا أدنى شك، وقد تكون الوحدة والعزلة أحد مفاتيحها ومركباتها.
سليفي في السيارة، وسليفي في المطعم، وسليفي في الحمام، وسليفي في البيت، وأثناء أداء العمرة، والمناسبات الاجتماعية، فرحا وترحا. واذكر شخصا توفاه الله طلب صورة سليفي مع رئيس وزراء سابق في بيت عزاء، وكان دولته قد أجهد على الاستعداد للالتقاط لولا أن واحدا عاقلا ورشيدا من أهل العزاء تدخل بهدوء واقنع الطرفين بان لا المكان ولا الزمان مناسبين للتصوير، وانقضى الامر، ولربما يكونوا قد أخذا صورا خارج بيت العزاء.
الله يرحمه كان مصابا بمرض ومتلازمة «تصوير السيلفي»، أمره غريب جدا. ولو أنه على قيد الحياة، فحالته تصلح للدراسة النفسية والاجتماعية لتصوير السيلفي، ولربما أن مفتاح هذا الكلام يعود الى قراءة وتحليل ما ورائي للحالة النفسية للمرحوم.
كثيرون يشبهون صاحبنا، والذي قد تكون التكنولوجيا قد تأخرت عليه قليلا، ويمكن القول اليوم أن هناك حزبا وجماعة» السيلفي». منتشرون في كل الاماكن والازمنة، ولا يغيبوا عن مناسبة اجتماعية : فرحا وترحا. من ينشغلون بانهماك بهواتفهم الخليوية، ولا يضيعون ثانية، ويبقون يكبسون فيها أكثر من بقية تفاصيل حياتهم اليومية.
جميل أن يوثق الانسان لحظات معينة من حياته، وكم جميل أيضا أن نقبض على الزمن في لحظة لاستعادته لاحقا؟ وجميل أن يكون لدى الانسان أرشيف صور فردية وجماعية وسليفي. وجيلنا يذكر في الطفولة البوم الصور، ويذكر استديوهات التصوير، وتلك اللحظة التي تحمل كثيرا من الانبعاث الذاتي عندما كنا نذهب الى الاستيديو، فالصورة مرتبطة بنجاح وتفوق مدرسي لتوضع على لوحة الشرف، ولاصدار جواز سفر، ولا أجمل من حلم المراهقة بالسفر الى بلاد العجم.
المنهكون بـ»داء السيلفي « ينسون عيش اللحظة، وبدل أن يستمع باللحظة، ويملأ حواسه ومشاعره وخياله منها، فيلتقط صورا ليراها الاخرون. وأذكر في عزومة في منزل صديق، وبعدما تم وضع « الطعام والشراب» فان أحد «مرضى السليفي « استغرق في التصوير بانهماك شديد، ولولا أني تنبهت الى حاله النفسي وما يعاني منه، كان سيبقى عشاء. يلتقط صور وينشرها ويتشبك في تعليقات مع المتابعين واللحظة الجميلة الحية تضيع من بين يديه، فأي مرض هذا.
ثمة ما هو فاضح في هوس التصوير، أن هناك لقطات لا تصلح للنشر والبث، وخاصة أثناء تناول الطعام، أو أن شخصا مثلا يرمي لقمة منسف في فمه، او ينسال من جانبي يديه لبن منسف او يتساقط الرز من فمه، أو ينكش ويحفر في أنفه، او يأكل بنهم زائد، وهناك اشخاص مقرفون في طرق الاكل، يأكلون بجشع ونهم وإفراط بالغ القرف.
السيلفي جميل، والتصوير فن، فعين المصور كما عين الفنان والرسام والشاعر والحكواتي والصحفي. تنظر بحدس الى الطبيعة والاشياء والعالم. ولكن الأهم دائما أن يبقى لأي صور هدف ما. ما عدنا أن تكون سلوكا مرضيا وتعبيرا عن سقم نفسي. فالاجمل دائما أن تعيش اللحظة أولا، ومن بعد تصورها.
لربما قد يغضب كلامي كثيرين من «جماعة السيلفي « وغيرهم، ولكن ارجوا أن يؤخذ من باب النصيحة لا أقل ولا أكثر، ودعونا نقلب كاميرات الهواتف، ونعطل تصوير أنفسنا بأقنعة عارية وجامدة.