ماذا لو اتفقت السعودية وإيران على تغيير قواعد الإشتباك؟
اخلاص القاضي
جو 24 :
في الماضي تجاوزت كل من المانيا وفرنسا أحقاد الحروب الطاحنة إلى إتفاق وتعاون كان تعبيراً عن رؤية استراتيجية صناعية زراعية ونواة لسوق أوروبية مشتركة، ومثلهما فعلت اليابان التي تخطت فظاعة مآسي "هيروشيما وناجازاكي"، ولم تقفل بابها على علاقات وتبادل وتعاون واتفاقيات مع الولايات المتحدة الأميركية التي غيرت وجه تاريخ العملاق الآسيوي، فشوهته، ولم تدر في باطن الأمر أنها قوّته، وهكذا كان.
لماذا لا يتعلم العرب، أو بالأحرى شعوب منطقة الشرق الأوسط من دروس التاريخ المثمرة؟ لماذا عليهم أن يعيشوا صراعاً خط بأقلام سحرية لخريطة لعبة دولية جعلتهم بيادق على ملعب الشطرنج الى ما لا نهاية؟، ولم يتسن لهم التحول يوماً الى "وزراء اللعبة أو حتى ملوكها" بالمعنى المجازي للكلمة - حتى لا أتهم بأنني ضد الانظمة الملكية، بل على العكس أثبتت انها الأكثر قدرة على الثبات في موازاة أنظمة جمهورية تهاوت على وقع هوى الربيع الأصفر، ولهذا حديث آخر.
ماذا لو فكرنا "ولو افتراضياً" بان تُغيّر كل من السعودية وإيران قواعد الاشتباك واللعبة إلى مسارات يتخطيان عبرها صراعاً لم يحسم بعد، صراعٌ غذته أذرع الامبريالية وقوى صناعة القرار الدولي والرأسمالي، تلك القوى التي تجيد التزلج على وتري النفط والماء، وإحكام القبضة على الموارد والمصادر الطبيعية، والتحكم بعباد الله وخلقه، في منطقة قدرُها أن تكون غنية، وتعيسة في آن معاً.
دعونا نتخيل في هذا المقال الافتراضي "الذي لم اتقاض عنه بطبيعة الحال أجراً من أي جهة، ولا حتى من الجهة الناشرة، وهو في سياق "الفاتنازيا الصحفية"، إذا صح التعبير"، دعونا نقول: ماذا "لو" قُدّر لكل من السعودية إيران أن يتخطيا الصراعات بكل اشكالها وخلفياتها وتعقيداتها وتشعباتها وأذرعها، الى تعاون "مصلحي"، يعيدان عبره رسم قواعد الاشتباك، بما يحقق المنفعة العامة لدول المنطقة، ويجنبها الانزلاق لمزيد من سيناريوهات عدم الاستقرار، فالعنف لا يولد إلا عنفاً، والصلح من تنازل، كما الشر من شرارة، وخاصة إذا كانت مفتعلة، ولنقل انهما سيبقيان عدوان في باطن الأمر، ولكن المصلحة تقتضي وضع العداوة جانباً، "فلا عواطف في السياسة"، فهنالك مصالح أقوى من ذلك، فماذا لو فعلاً حدثت المعجزة، ووضعت الحرب الخفية والمعلنة بين كل من طهران والرياض أوزارها، ولنقل إفتراضاً وكاننا دخلنا تسوية" تطبيعية" تحدد عبرها المكاسب التي من الممكن أن يحققها الطرفان لبعضهما بعضاً من جهة، وللمنطقة برمتها من جهة أخرى، على أن يتم التفاهم على "الصراع" وتقاسم النفوذ،"حُبياً"!
أقول ذلك، ونحن على أعتاب بل في متن صراع تحول من اللفظي إلى مواجهات عسكرية مستعرة برائحة البارود والدخان الذي يعتلي سماء مياه الخليج، وأدرك حجم وعمق الصراع، ولكننا أحوج ما نكون الآن إلى عقلنة أدوات الصراع والمواجهة، لأن حجم الخسارة - إن استمر الحال على حاله - لن يتحملها إلا العرب كالعادة، ومنطقة الشرق الأوسط برمتها، فقدر المنطقة أن تكون ملعباً لاختبارات السياسة والذكاء "الأبله" لقياديي الغرب الذين رأوا بنا " لقماً سهلة"، يبتلعونها بمزاج ويلفظونها بمزاج آخر.
لو قدر للقوى الإقليمية الكبرى في المنطقة، وهما بلا منازع السعودية وإيران التقارب والاتفاق على الكثير من المسائل الخلافية المعروفة، لشكّل ذلك صدمة للإدارة الأميركية تحديداً المستفيدة حكماً من التناقضات التي تغذيها بأساليب الدولة العميقة المُحاكة في الغرف الذي لم تعد مظلمة، بل "تلعب على المكشوف"، فمن سيشتري السلاح إذا استتب الأمن في المنطقة بشكل عام، وفي المياه الخليجية بشكل خاص، وكيف سينكث الرئيس الأميركي دونالد ترامب عهده مع ناخبيه حين وعدهم "بالمليارات" التي تأتيهم من الخليج، كما قال ويقول جهاراً نهاراً، قديماً وحديثاً؟
إذ أن ديدن الغرب منذ أن استقل العرب عن احتلالاتهم -عدا فلسطين الجريحة – هو صناعة "فزاعات" تتغير من شكل إلى آخر، ولكن مكانها ثابت، قرب النفط، وفي الدول المشاطئة لاغنى الأنهر، وحول إسرائيل، ذلك أن دولتها المزعومة من الفرات الى النيل، وهو الحلم المرسوم على علمها بخطين ازرقين لن يتخطيا قطعة قماشهم البالية وحبرها المسموم، فهي دولة محتلة، مسجونة بخوفها وعقدة ارتكاباتها وتلطّخ تاريخها بالدم، فالسارق يبقى مرتعداً متلفتاً خائفاً من لحظة حقيقة، آتية لا محالة.
وفيما يجري في الخليج الآن من اعتداءات بتوقيت مشبوه، "فتش عن إسرائيل ومن خلفها أميركا، وليس العكس"، وعلينا ألا ننجر الى توجيه أصابع الإتهام لدولة بعينها، فقط لأن ترامب أراد ذلك - ليس دفاعاً عن إيران أو غيرها - هذا الرئيس الذي تزامن التوتر في منطقة الخليج مع وصوله للسلطة، ومع أول زياراته لها، وحين حصل على المليارات لمعت عيناه كتاجر لا يعرف إلا لغة الدولار، حيث أن الأزمة مع قطر اُفتعلت بتوقيت مشبوه - لاحظوا التسلسل الزمني في تصعيد التوتر في الخليج- منذ مجيئه، قبل ذلك كانت كل الأمور تسير بهدوء نسبي في منطقة الخليج تحديداً.
ويبدو أن قطر – بمعزل عن حقيقة ما نسب اليها من عدمه - قد رفضت الإبتزاز من قبل "عاشق الدولار" الذي حلم بالصندوق السيادي القطري الغني جداً قياساً إلى حجم الدولة وعدد سكانها، فكان ما كان، هو يعنيه وإسرائيل ان لا يبقى أي شكل من أشكال الوحدة العربية، أو الخليجية، ومجلس التعاون الخليجي بقوته وتماسكه كان شكلاً رائعاً من أشكال الوحدة، التي لا تريدها إسرائيل عرّابة "فرق تسد"، فكان الشرخ مع قطر، ولا ننسى الثأر الشخصي لترامب الذي خبِر حكماً بان قطر قد دعمت منافسته هيلاري كلينتون إبان الانتخابات الرئاسية الأميركية الاخيرة، ولا تظنوا أن "الكبار" ليس لديهم نوايا الانتقام، بل هم خير من يجيدونه، فبعد القضاء على قوة بغداد ونماء سوريا وضمان مصر والأردن في سياق اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل، وعدم استقرار لبنان وقدره بحروب الآخرين على أرضه، وبادوات ملوك الطوائف والمحاصصة، وبعد فوضى ليبيا وما جرى بتونس، وبعد وبعد..الخ، لا يريد الغرب أن يبقى أي شكل من أشكال التعاون لدى العرب، فكان لابد من شرخ في مجلس التعاون، حيث لا يخدم ذلك الإ الإدارة الأميركية الحالية وتل أبيب، وطرق تفكيرهم المؤسسية الممنهجة المستندة لبروتوكولات حكماء صهيون، والمتحكمة بالقرار الاقتصادي الأميركي، فعملياً من يقود العالم هو الصهيونية العالمية التي أتقنت دور المُفرّق القادر على الوصول الى حيث يريد، تارة بأدوات عسكرية، وأخرى بسياسية ناعمة، وثالثة بإقتصادية خفية، ورابعة بثقافية مدمرة، وخامسة وعاشرة والى ما لانهاية بتكنولوجيا تجسسية، من على منابر مارك زوكربيرغ ومن هم على شاكلته، ممن سهّلوا على الأجهزة العميقة آليات التجسس وطرقه الملتوية، فأضحينا نقدم اسرارنا على طبق من استعراض أبله على صفحات التواصل الاجتماعي بلا هدف ولا رؤية.
لم لا تبدأ القوى الإقليمية الفاعلة بهدنة وخفض للتصعيد وأخذ نفس عميق تفكر في غضونه بإدارة النزاع عبر الحوار والتفاهم، "ولا تقل لي أن الموضوع عقائدي، أو مذهبي، أو ديني"، فالعرب تخطوا ذلك حين وضعوا أيديهم بأيدي أسرائيل التي عاثت بالأرض العربية احتلالاً، ونحن نحترم كل الأديان السماوية، فلماذا لا نحترم من هم من ديننا فالايراني مسلم، والسعودي مسلم، وطاولة الحوار لابد وأن تتسع للجميع للاتفاق على قواعد جديدة للصراع "الخفي المعلن" والحد من الاطماع، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وإحترام سيادة الدول، وإدارة المصالح المشتركة بما يعود بالنفع على الجميع، ولكن هذا السيناريو لا يرعب إلا إسرائيل، فكيف ستسمح بنشوء قوة ضاربة هي خليط بين قوى نووية ونفطية ومواردية وبشرية وعسكرية ومائية، ناهيك عن تمتعها بالموقع الجغرافي الاستراتيجي للملاحة البحرية المجدية، إذ سيشكل ذلك السيناريو"الحلم" ضربة قاصمة للمخططات الاستعمارية التي اخترعت غول محاربة الشيوعية، ثم طالبان، فالقاعدة، فإرهاب 11 سبتمبر، فالخريف العربي، فداعش ومثيلاتها، فإيران والوتر السني الشيعي، ومن يدري ماذا يحاك الآن من سيناريوهات تجعل دول المنطقة جاهزة دائمة للاستنجاد بالقوى العالمية لتخلصهم من "شرور الآخرين".
ذلك "الصلح الذي يحتاج لمعجزة" لن يعجب إسرائيل، التي تجتهد ليل نهار في التقرب من دول الخليج، والبحث عن المكاسب، ووضع قدمها في إطار تطبيعي دائم، في موازاة فكر أميركي، لا يقبل إلا بالاستفراد والتسلط والاستحواذ، لهذا كله كان توقيت إشعال مياه الخليج، ولهذا كله وأكثر سيبقى التوتر حاضراً طالما استمر الابتزاز وعطش سوق السلاح للمليارات، التي قد ترضي الناخب الذي ربما يجد في مستشار الرئيس الأمريكي "الوسيم" جاريد كوشنر او زوجته "الجميلة" إيفانكا الوجه الأمثل لغلاف الرئاسة الأميركية ما بعد المقبلة، لاسميا وأن ترامب قد حجز مقعده الانتخابي منذ الآن على وقع افتعال لازمات شرق أوسطية تلهم الناخب اليهودي الأميركي على التهافت لصناديق الإقتراع التي تقفل على وعود وتفتح على تنفيذها، خاصة فيما يتعلق باستمرار نهب ثروات المنطقة واشعال فتائل حروبها، والتحكم بمصائرها.
وعلى أي حال، بمعزل عمن يخلف هذا الرئيس المهووس بالمال والسلطة، سيتقن كل من سيأتي بعده إشعال المنطقة وابتزازها وأحكام شروخها وتقديم الجاني الجاهز دائما على طبق من إتهام يُحصر بفيديوهات غير واضحة، في زمن تستطيع التكنولوجيا فيه أن ترصد رسالة غرام على تطبيق واتساب، ورقم سيارتك، ونمرة حذائك، وعدد الشجرات المتاخمة لبيتك، وربما طبقك اليومي، ونوع عطرك!